[الصلح في المسامحة ببعض الدين]
من الأحاديث التي ذكرها لنا الإمام النووي: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء).
الحديث ذكره ابن حبان وفيه: أن امرأة وابنها يستوضعان الرجل ويسترفقانه، يعني: ارفق بنا، حط عنا من الثمن قليلاً، فحلف الرجل أنه لن يفعل.
وجاء في رواية للحديث نفسه: أن المرأة وابنها كانا يستوضعان الرجل، يعني: يطلبان منه أن يضع شيئاً من هذا المال، وقالت المرأة: إن هذا الطعام الذي أخذناه ما نقص إلا قدر ما أكلناه فقط، فحط عنا، كأنها تريد أن ترجع له أشياء اشترتها قد أكلا بعضاً منها، والرجل يقول: أكلتم منها، لن أرجعها، فلا هو الذي رضي أن يرجع السلعة، ولا هو الذي حط عنهما الثمن، وحلف لهم: والله لن أفعل.
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم فخرج يسأل، فالمرأة -في رواية ابن حبان - قالت: إني ابتعت أنا وابني من فلان تمراً، أي: اشترينا تمراً من هذا فأحصيناه، لا والذي أكرمك بالحق ما أحصينا منه إلا ما نأكله في بطوننا أو نطعمه مسكيناً.
يعني: التمر الذي أخذناه أكلنا منه وأطعمنا منه المساكين وجئنا نستوضعه.
يعني: اشتريا منه بدين، فطلبا منه أن يحط عنهما قليلاً أو ينظرهما إلى وقت آخر، فرفض أن يضع عنهما أو ينظرهما، فلما تكرر منه هذا الشيء فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أين هذا المتألي على الله ألا يفعل الخير)، والرواية هنا: (أين المتألي على الله لا يفعل المعروف) أي: من هذا الذي يحلف على الله إنه لن يفعل المعروف؟ فالكلمة شديدة، إذ إن الرجل موجود لعله يخجل، وفعلاً خجل من نفسه، فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: احك لي حكايتك، لأنه هنا ليس حكماً، وإنما هو إصلاح، فلذلك لم يرد أن يسمع من الرجل، ولكن قال كلمة أوجعت الرجل: (أين المتألي) أي: هذا الذي يحلف أنه لن يفعل الخير؟ والإيلاء: حلف اليمين، قال: (آلى ألا يصنع خيراً، آلى ألا يصنع خيرا، ثلاث مرات، فقال الرجل صاحب التمر للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت وضعت ما نقصوا، وإن شئت من رأس المال) أي: أفعل ما تريد.
ففي الحديث هنا: أن الرجل سمع النصيحة من النبي صلى الله عليه وسلم: (أين المتألي على الله لا يفعل الخير؟ قال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب) والغرض هنا: نوع من الإصلاح، أصلح النبي صلى الله عليه وسلم بين الرجل وبين الآخرين.
ويمكن أن نذكر قصة كعب بن مالك مع ابن أبي حدرد: تقاضى كعب بن مالك ابن أبي حدرد مالاً في المسجد فقال له: ما معي.
وارتفعت الأصوات في المسجد، فالنبي صلوات الله وسلامه عليه خرج على الاثنين، وقد ارتفعت أصواتهما، فعرف أن كعباً يطلب من الآخر ماله، لكن لا ينبغي أن يكون هذا في المسجد، وعلى كلٍ لصاحب الحق مقال.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ كعب: (يا كعب، ضع الشطر) وقوله صلى الله عليه وسلم هنا ليس على سبيل الوجوب ولكنه يشفع بكلمة طيبة، أي: لا تأخذ الدين كاملاً وخذ نصفه فقط، فقال: (أفعل يا رسول الله، وقال للآخر: قم فاقضه.
قال: نعم يا رسول الله).
ففعله صلى الله عليه وسلم هنا ليس حكماً؛ لأنه عند الحكم لا بد أن يسمع من هذا ويسمع من هذا ثم يقضي بينهما، ثم يكون ملزماً أن يدفعه كاملاً، أو نظرة إلى ميسرة، ولكن كان هذا إصلاحاً منه صلى الله عليه وسلم، فنتعلم من ذلك كيف نصلح بين الناس، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:١٠].
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى النصح وعلى الانتفاع به، وأن ينصر الإسلام والمسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.