[الحث على الاجتماع على الطعام رجاء حصول بركته]
من الأبواب المتعلقة بآداب الطعام هنا: [باب ما يقوله ويفعله من يأكل ولا يشبع] فإذا كان الإنسان يأكل ولا يشبع، ويريد أن يأكل كثيراً فإنه يعمل بما رواه الإمام أبو داود بإسناد فيه ضعف وله شواهد بمعناه عن وحشي بن حرب رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! إنا نأكل ولا نشبع)، وطعامهم كان قليلاً، ومع قلة الطعام كان كل واحد يأخذ نصيبه ويقعد ليأكل، فلا يكيفهم الطعام.
لما قالوا ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلعلكم تفترقون)، فقالوا: نعم.
قال: (فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه)، فالجواب من النبي صلى الله عليه وسلم كان متعلقاً بأمر ليس على بالهم فلماذا كانوا يأكلون متفرقين؟ إن العادة أن كل واحد يقول: أريد نصيبي؛ إذ الطعام قليل، فلو قعدت آكل مع الناس سيأكلون نصيبي، فكان واحد يأخذ نصيبه من أجل أن لا يأخذ أحد حق الآخر، وكان الطعام لا يكفيهم، وكان أحدهم يأكل ولا يشبع من قلة الطعام، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم على عكس ما توهموه، ومع الإيمان وتقوى الله سبحانه وتعالى يحدث ما ليس في حسبانك، فالبركة تنزل من عند رب العالمين سبحانه.
فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأكلوا جميعاً فقال: (فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله)، فإذا حصل ذلك جاءت البركة من عند رب العالمين، ويبارك في هذا الطعام، فكان الأمر على ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه.
والبركة شيء لا يراه الإنسان، بل شيء يستشعره بقلبه ويستشعره بما يكفيه من هذا الطعام الذي دخل في فيه.
فالطعام هو هو، وقد كان كل واحد يأخذ نصيبه لوحده ويأكل ولا يكفيه الطعام، ولما وضعوا الطعام كله وجلسوا جميعاً، جاءت البركة من عند ربنا سبحانه، فأكلوا وشبعوا، فما هو الذي حصل هنا؟ لقد زاد الطعام وإن لم يزد أمامهم في النظر، ولكن جاءت البركة من عند الله سبحانه.
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة وعلم من بعدهم الاجتماع على الطعام؛ حتى تأتي البركة من عند الله سبحانه.
وقد كانوا أحياناً يرون هذه البركة أمامهم شيئاً حقيقياً، وأحياناً تكون شيئاً مدركاً في النفس.
ومن ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد جاءه ضيوف في يوم من الأيام، وقد كانوا ضيوف النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم طعام يطعمه هؤلاء الضيوف، فأخذهم أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ونادى ابنه عبد الرحمن ليطعم هؤلاء الضيوف، ثم تركهم وانصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسهر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع فوجد الضيوف لم يأكلوا، فلما سألهم عن سبب ذلك قالوا: انتظرناك! فقال: والله لا آكل من هذا الطعام.
فقالوا: والله لا نأكل.
أي: ونحن - أيضاً - لن نأكل.
وهذا تعنت من الضيوف، حيث وضع الطعام، وإذا وضع فما هو المعنى لانتظارهم إلى أن يأتي أبو بكر ليأكل معكم؟ فلذلك غضب أبو بكر وأقسم أنه لا يأكل هذا الطعام، ولما وجد أن الضيوف لن يأكلوا رجع في يمينه؛ فاليمين يسهل أن أكفرها، ولا داعي لأن أحرج الضيوف، ولا داعي لانصرافهم من غير أن يأكلوا.
فلما قالوا ذلك قال: إنما كانت هذه من الشيطان.
وجلس وأكل، وأكل الضيوف، وإذا بالطعام يزيد، فقد كان ما في الصحفة يربوا من أسفله، وحين قاموا عنها كانت أكثر مما وضعت أمامهم! فهنا شيء ملحوظ محسوس كانوا يرونه أمامهم.
فإذا به يأخذ الصحفة ويذهب إلى امرأته فيقول: ما هذا يا أخت بني فراس؟! أي: ما هو الذي حصل في الطعام؟ فقالت: والله لهي الآن أكثر مما وضعناها.
فأخذها وذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخبره أنها بركة من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
وليست هذه هي المرة الوحيدة، بل حدث ذلك مرات ومرات، فقد خرجت البركة من أصابع النبي صلى الله عليه وسلم في ماء قليل يسقي به جيشاً كاملاً صلوات الله وسلامه عليه في يوم الحديبية وفي غيره.
ووضع صلى الله عليه وسلم سهماً في عين ماء بالحديبية كان الماء فيها قليلاً وإذا بالعين تجيش بالماء، ويشرب منها الجيش، ويسقون إبلهم وما معهم من هذه العين.
فالبركة هنا شيء حقيقي يراه الإنسان زائداً أمامه، وقد لا يرى زيادة، ولكن يعلم أنهم كانوا عشرة أنفار يقعدون على مثل هذا الطعام فلا يكفيهم، فصار يكفيهم، فهذه بركة لم ترها، ولكن الله سبحانه وتعالى جعلها في الطعام.