للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ما ورد في التعجيل في قضاء الدين عن الميت والمبادرة في تجهيزه]

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الإمام النووي رحمه الله: [باب تعجيل قضاء الدين عن الميت والمبادرة إلى تجهيزه إلا أن يموت فجأة، فيترك حتى يتيقن موته.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

وعن حصين بن وحوح رضي الله عنه: (أن طلحة بن البراء رضي الله عنه مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال: إني لا أُرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به، وعجلوا به؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله)، رواه أبو داود].

هذا الباب أورده الإمام النووي في رياض الصالحين في كتاب عيادة المريض وتشييع الميت، وقد ترجمه بقوله: باب تعجيل قضاء الدين عن الميت، والمبادرة إلى تجهيزه إلا أن يموت فجأة، ومعنى الترجمة: أن الإنسان المؤمن إذا مات فعلى أهله أن يبادروا بتجهيزه، ومن ضمن هذه المبادرة وأهمها: أن يقضوا الدين الذي عليه إن كان عليه دين؛ لأنه من أخطر ما يكون على الميت، فإنه قد يحبسه عن رحمة الله عز وجل، وقد يعذب في قبره بسببه، فلذلك إذا ترك الميت وفاءً فيؤدوا عنه ما كان عليه من دين، وإذا لم يترك مالاً تصدقوا عليه وأدوا عنه الدين الذي عليه، بما يقدرون عليه، كما صنع أبو قتادة رضي الله عنه بالمتوفى الذي مات ولم يترك مالاً يقضى منه دينه.

في بداية هذا الباب ذكر المصنف رحمه الله تعالى حديثاً لـ أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه)، فالخطاب هنا والحديث عن المؤمن وليس عن الكافر.

ومعنى: نفسه معلقة أي: محبوسة، وجاء في قصة أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الآن حين بردت عليه جلده)، أي: كأنه سخن جلده وأحمي عليه؛ بسبب هذا الدين الذي كان عليه، فلما قُضي الدين -وكان الدين دينارين فدفعها أبو قتادة - عندها خفف عنه من هذا العذاب وبرد جلده.

قوله: (حتى يقضى عنه دينه) يعني: سواء كان هذا القضاء من ماله إن كان له مال، أو أن الورثة جمعوا من مالهم ودفعوا ما عليه، أو أن إنساناً صديقاً تصدق عنه بهذا المال فقضى عنه الدين، وإلا فإن هذا المتوفى سيظل محبوساً بالدين، وفي الحديث الآخر: (عندما سئل صلى الله عليه وسلم عن الشهيد، هل يغفر له؟ فأخبر أنه يغفر له، ثم قال صلى الله عليه وسلم للسائل: إلا الدين، فإن جبريل أخبرني آنفاً بذلك).

إذاً: من مات وعليه دين فإنه يسأل عن هذا الدين، ويحبس عن رحمة الله سبحانه وتعالى؛ بسبب هذا الدين، وحديث: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) قال عنه الترمذي: حديث حسن، وصححه الشيخ الألباني.

وأورد المصنف في هذا الباب كذلك حديثاً رواه أبو داود بإسناد ضعيف، عن حصين بن وحوح رضي الله عنه: (أن طلحة بن البراء رضي الله عنه مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به)، ومعنى: فآذنوني أي: أعلموني عندما تكونون جاهزين للدفن.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وعجلوا به؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله).

هذا الحديث إسناده ضعيف، ولكن معناه صحيح، يشهد له ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة)، فالإسراع يكون بتجهيز الميت: من تغسيل وتكفين وحفر قبر وحمل ومن الصلاة عليه، وعلل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ بأن هذا الميت إما أن يكون من أهل الخير أو غير ذلك، فإذا كان من أهل الخير فأنتم تسرعون به إلى الخير، وإذا كان غير ذلك فهو شر تضعونه عن أعناقكم، فالخير في كل الأحوال أنكم تسرعون بالجنازة ولا تبقونها بينكم.

وهنا في الحديث قال: (فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم)، سبحان الله، الإنسان في حياته ينادى باسمه فلان بن فلان، لكن بعدما يموت، لم يعد يسمى باسمه، بل أصبح يقال له: جثة، فتسمعهم يقولون: هات الجثة، احمل الجثة ادفن الميت فقد صار الآن يعامل معاملة الجماد، بل إنه في الحديث سماه جيفة؛ لأن هذه الجثة إذا بقيت بين أهلها فإنهم لن يطيقوا ريحتها بعد تحللها وتحولها إلى شيء آخر، هذا كله يحدث للبدن، أما الروح التي هي داخل هذا البدن فلا يعلم سرها إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال في محكم كتابه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:٨٥]، فهذه الروح مغلفة ولابسة هذه الثياب التي هي البدن، فإذا خرجت الروح أصبح الشخص كالثياب بلا إنسان، فإذا خرجت هذه الروح وذهبت إلى ربها سبحانه وتعالى صار الجسد كالثياب القديمة البالية، ولذلك وجب حمله ومواراته في التراب.

فإذا دفن في قبره فالله سبحانه وتعالى يرد عليه الروح بصورة معينة، ليست كصورتها في الدنيا، وإنما بصورة خاصة بالحياة البرزخية، حيث يشعر الجسد وتشعر الروح بكل ما يحدث لهما من السؤال والانتهار والجواب، وبعد ذلك يذهب بالروح إما إلى عليين وإما إلى سجين، وهذا البدن يشعر في القبر بالعذاب، كذلك الروح والجسد يأتيهما من فضل الله ورحمته، أو من عذاب الله ونقمته ما يشاءه الله سبحانه وتعالى لهما.

فقال هنا صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لجيفة) ووصفها بأنها جيفة مع أنها للإنسان المسلم.