للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث معاوية بن الحكم: (بينا أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل من القوم)]

ومن الأحاديث الواردة في الباب حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم)، وكأن معاوية كان جديداً في إسلامه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأثناء ما كان يصلي عطس رجل فشمته معاوية، قال: (فقلت: يرحمك الله)، وهذا غير جائز، ولكن الرجل إسلامه جديد، وما كان يعرف الحكم الشرعي في ذلك وعذره النبي صلى الله عليه وسلم لجهله في ذلك، قال: (فرماني القوم بأبصارهم) يعني: أصبح الناس ينظرون إلي ويشيرون لي أن أسكت، قال: (فقلت: واثكل أمياه، واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي) الثكل: الفاجعة، والمرأة الثكلى التي فقدت ابنها، فهذه الكلمة تقال عند التوجع للنفس، فهو هنا تكلم بكلام لا ينبغي في الصلاة قال: (واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم)، فلاحظ أنه ما أحد منهم رد عليه بالكلام، فهم أولاً نظروا إليه من أجل أن يسكت فلم يسكت، فضربوا على أفخاذهم حتى يسكت، قال: (فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت) يعني: كأنه يقول: فلما رأيتهم يصمتونني، كنت سأرد عليهم، لكنني سكت، قال: (فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني عليه الصلاة والسلام)، فهو كان ينتظر من النبي صلى الله عليه وسلم أن يضربه أو يشتمه، قال: (ما كهرني) يعني: لم ينهرني ولم يكلمني كلاماً غليظاً، (ولا ضربني، ولا شتمني)، وكأنه يرى في نفسه أنه يستحق ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، هذه حكمة النبي صلى الله عليه وسلم والموعظة الحسنة التي أمر بها، (قال: إنما هي التسبيح، والتكبير وقراءة القرآن).

إذاً: لا ينبغي للإنسان أن يكلم من بجواره بأي كلام في الصلاة، ولا حتى بأن يقول له: يرحمك الله، فإذا خاطب أحداً بطلت صلاته بذلك، لكن معاوية هنا لم تبطل صلاته لكونه جاهلاً بالحكم، والنبي صلى الله عليه وسلم علم جهله، فعذره ولم يأمره بإعادة الصلاة، ولو أمره بذلك لذكره الراوي، يقول: (قلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية)، يعني: إسلامي لا يزال جديداً، فهو هنا بعد الذي فعله في صلاته، وبعد موقف النبي صلى الله عليه وسلم منه وكونه لم ينهره ولم يشتمه، جعله ذلك يتشجع ويكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله، فقدم عذره أولاً وهو أنه قريب عهد بجاهلية، ثم قال: (وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالاً يأتون الكهان)، فهو قريب عهد بجاهلية، ومن قومه من لا يزال كافراً ويأتي الكهان ويسألهم قال: (فلا تأتهم) أي: أنت رجل مسلم فلا يجوز لك ذلك، قال: (قلت: ومنا رجال يتطيرون)، يعني: من قومه، سواء من المسلمين أو من غيرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيء يجدونه في صدورهم)، فالإنسان حين يكون قريب عهد بجاهلية فإن نزغات الشيطان لا تزال تراوده، فيتطير ويتشاءم بسبب جهله بدين رب العالمين، وكثير من الناس يقعون في التشاؤم من باب التقليد، فبعضهم يسمع أن الغرب يتشاءمون عند رؤية قطة سوداء تمشي من أمامهم، فيتشاءم هو منها كنوع من التقليد، فصار التقليد حتى في الكفر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ومنهم من يرى البعض يتخذون التمائم فيقلدهم في ذلك، مع أن هذا الفعل حرام وهو من الشرك بالله سبحانه وتعالى، وبعض الناس يضعون في أيديهم حظاظة -وهي ما يلبس في اليد لجلب الحظ- وهذا من الشرك بالله سبحانه وتعالى، فمن اعتقد أن شيئاً ينفعه أو يضره مع الله فقد وقع في الشرك بالله سبحانه وتعالى، وفي الحديث قال: (ومنا رجالاً يتطيرون، قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم) يعني: لقرب عهدهم بجاهلية، (فلا يصدنهم).

إذاً: الإنسان الذي اعتاد على هذا الشيء في جاهليته فإنه يكون من الصعوبة أن يتغير عنه بعدما يعرف الإسلام الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيء يجدونه في صدورهم)، فإذا حصل هذا قال: (فلا يصدنهم).

وأهل الجاهلية كان الواحد منهم إذا أراد أن يسافر ذهب ينظر إلى الطير، فإذا طار الطير يميناً تيامن بذلك وتبرك بذلك، وقال: اليوم بركة سنسافر فيه، وإذا طار الطير شمالاً تشاءم من ذلك، فلما دخل الناس في الإسلام بقي أثر هذا الشيء في الصدور.

ومثل ذلك الحلف بغير الله سبحانه، فقد كانوا يحلفون باللات والعزى، فلما دخلوا في الإسلام كان فيهم بقية من ذلك، فلما يأتي الواحد منهم يتكلم يقول: واللات والعزى، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم من وقع منه مثل هذا أن يقول: لا إله إلا الله، فيتذكر أنه وقع في الشرك بهذا الشيء وإن كان هذا سهواً فيقول: لا إله إلا الله كلما صدر منه ذلك حتى يبطل عنده الحلف باللات والعزى والحلف بغير الله سبحانه.

وكذلك الذي اعتاد على أن يحلف بقوله: وحياة أبي أو وحياة أمي أو والنعمة، فهذا هنا حلف بغير الله وهذا من الشرك، فإذا وقع في ذلك فليقل وراءها: لا إله إلا الله، فإذا قال ذلك فإنه سيعتاد على أن يوحد ربه سبحانه وسيخرج من رأسه الحلف بغير الله.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فلا يصدنهم) يعني: لا يصدنك رؤية الطير عن أن تذهب إلى المكان الذي كنت تريد أن تذهب إليه.