[قصة جريج العابد]
من الأحاديث التي جاءت حديث طويل عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة)، الحديث طويل، والغرض منه آخر الحديث، وفيه قصة جميلة، يقول: إن ثلاثة فقط تكلموا وهم في حال الرضاعة، وهم: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وسيأتي ذكره، والظاهر أيضاً أن هناك رابعاً لهؤلاء الثلاثة وهو من أصحاب الأخدود وقال: يا أمة الله! اصبري، فهؤلاء أربعة.
ذكر منهم هنا ثلاثة، أولهم: عيسى بن مريم نطق وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:٣٠]، فكان نطقه آية ومعجزة.
الثاني: صاحب جريج، وجريج هذا كان رجلاً عابداً اتخذ صومعة، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج! فقال: يا رب! أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، وفي رواية: أنه كان تاجراً يزيد مرة وينقص مرة، يعني: يربح مرة ويخسر مرة، ثم ملَّ من التجارة وقال: إني سأنظر لي تجارة مع الله تبارك وتعالى أفضل من ذلك.
في هذه الرواية يقول: كان رجل في بني إسرائيل تاجراً، وكان ينقص مرة ويزيد مرة، فقال: ليس هذه تجارة فيها خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعة وترهب فيها، وكان يقال له: جريج.
يعني: كأنه في البداية كان تاجراً ثم اعتزل وترهب، والرهبانية كانت في بني إسرائيل، ولم يفرضها الله عليهم ولكنهم ابتدعوها، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:٢٧]، (إلا) هنا استثناء منقطع، أي: نحن ما كتبناها عليهم ولكن هم فعلوا ذلك -فإلا بمعنى لكن- وفعلوها ابتغاء مرضاة الله، وعندما أتوا بها ما رعوها حق رعايتها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا أنه لا رهبانية في الإسلام.
في الحديث: أن هذا الرجل بنى صومعة يعبد فيها ربه تبارك وتعالى، فجاءته أمه فقالت: يا جريج! وفي بعض الروايات: أنها جاءت له ثلاثة أيام، وفي كل مرة تناديه، ثم يتركها ويقبل على صلاته.
وفي رواية يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لو كان جريج فقيهاً لترك صلاته وأجابها) فهو يصلي صلاة نافلة، ولو كان فقيهاً لترك الصلاة ورد على أمه، ولكنه كان عابداً.
فالرجل وهو يصلي تناديه أمه: يا جريج! فلم يرد عليها، وقال: يا رب! أمي وصلاتي، يعني: ماذا أعمل؟ هل أرد على أمي أم أكمل صلاتي؟ فآثر صلاته، وهكذا صنع ثانياً وثالثاً، لكن أمه تعبت منه فدعت عليه وقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه البغايا.
والمرأة أيضاً كانت حنونة عليه في الدعاء، فما قالت: اللهم لا تمته حتى يزني، أو يقع في الفاحشة، ولكن دعت عليه أن ينظر في وجوه المومسات.
ثم تذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وقد كان مشهوراً عندهم، حتى إن ملك بني إسرائيل يعرف جريجاً ويعرف عبادته، وكان امرأة بغياً يتمثل بحسنها من ضمن ذلك المجلس، وكانت امرأة فاجرة عاهرة في غاية الجمال، فقالت لبني إسرائيل تتحداهم: إن شئتم لأفتننه، وفي مسند الإمام أحمد قالت: لئن شئتم لأصبين منه، يعني: سألد لكم منه، وهم يعلمون أن جريجاً لا يمكن أن يفعل هذا الشيء.
ذهبت إليه الفاجرة فلم يرد عليها، ثم مرة ثانية وثالثة، ورأت أنها ستخسر المراهنة مع بني إسرائيل، وكان هناك راع يأوي إلى صومعته، فإذا بالمرأة تمكن هذا الراعي من نفسها حتى يزني بها العياذ بالله، فلما زنى بها حملت ثم وضعت غلاماً، وافترت على جريج أنه أبو هذا الغلام، فذهب بنو إسرائيل إلى جريج ليعلموا منه من أبو هذا الغلام، وكيف تفعل هذه المصيبة؟ ذهبوا إليه ومعهم فئوسهم ومساحيهم فنادوه فلم يجبهم، والذي حصل مع أمه حصل مع هؤلاء فلم يكلمهم، لكن أمه كانت حنونة فسكتت، أما هؤلاء فلم يسكتوا، فبدءوا بهدم الصومعة عليه، فلما فعلوا ذلك نزل إليهم فقال: ما أمركم؟ وفي رواية: أنهم أخذوه وأخذوها وربطوهما بحبال في أعناقهما وأخذوا يطوفون بهما في الناس، فيسألهم ما الأمر؟ فيقولون: سل هذه! وفي رواية: أنهم وصلوا به إلى بيت الزواني، فلما وصل إلى هنالك خرجن ينظرن إليه، فضحك، فتعجبوا منه كيف يضحك عندما جاء إلى باب الزواني؟ فأخذوه وذهبوا به إلى الملك فقالوا: هذا جريج الذي يذكر من عباداته ما يذكر.
فإذا بالملك يقول لـ جريج: أنت الذي يذكر من عبادتك كذا وكذا؟ ويحك يا جريج! كنا نراك خير الناس فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه، فلما ذهبوا به ليصلبوه طلب منهم الإنظار فتركوه.
وفي رواية: أنه صلى لله عز وجل، وكأنه نام فرأى في منامه أن افعل كذا، وفي هذه الرواية أنه قال: أين الغلام؟ فأتوا به فطعن بأصبعه في بطنه، وفي رواية: أنه أخذ غصناً من شجرة وطعن به في بطنه، وقال: من أبوك؟ فنطق الغلام وقال: أبي فلان الراعي، فبرأ الله عز وجل جريجاً.
فقاموا يقبلون يديه ورجليه ويتعلقون به ويقولون له: سنبني لك الصومعة من ذهب، فقال: لا إلا كما كانت من طين.
هذه قصة جريج وصنيع الناس معه، وهي قصة عجيبة جداً فيها بيان ثقة جريج بالله سبحانه وتعالى، حيث أخذوه ليصلبوه فقال لهم: اتركوني أصلي وأدعو ربي سبحانه، وإذا بالله عز وجل يبرئه وينجيه.
ثم سألوه عن سبب ضحكه لما أتى بيت الزواني، فقال: تذكرت دعوة أمي علي! لولا لطف الله عز وجل به، وأنه من أولياء الله سبحانه لضل، ولكن الله لا يضيع عليه صلاته، صحيح أنه لم يجب أمه، ولكنه أيضاً له عبادة ومنزلة عند الله عز وجل، فلم يتركه الله سبحانه وتعالى في الموقف الذي كان فيه.