[فائدة الإقلال من الدنيا ومضرة الإكثار منها]
ومن الأحاديث ما جاء في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة بالمدينة فاستقبلنا أحداً فقال: يا أبا ذر.
قال: قلت: لبيك يا رسول الله.
فقال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيئاً أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله وعن خلفه.
ثم سار صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة).
فانظر إلى الموعظة، فجبل أحد جبل عظيم، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: لو كان أحد هذا كله ذهباً وأنا أملكه فإنه لا يسرني أن يبقى عندي ثلاثة أيام، فانظر إلى كرم النبي صلى الله عليه وسلم وإنفاقه لله سبحانه وتعالى، بحيث إنه لو كان جبل أحد جبل ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنفقه في أقل من ثلاثة أيام في طاعة ربه سبحانه.
واستدرك صلى الله عليه وسلم قائلاً: (إلا شيئاً أرصده لدين) فالدين يمنعك من أن تنفق نفقة التطوع؛ لأن صاحب الدين أولى، فإذا كان عليك دين تصدق بصدقة التطوع.
قال صلى الله عليه وسلم: (إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا) يعني أنه ينفق في جهة اليمين وجهة الشمال ووراءه، فيعطي عباد الله مما يؤتيه الله عز وجل.
ثم سار صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة).
فالأكثرون من الناس في الدنيا هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وشماله.
فلا تنظر إلى الأكثرين في الدنيا، فالأكثرون الذين خالفوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا هم الذين يدخلون الجنة، إنما يدخلها الذين ساروا على نهجه صلى الله عليه وسلم، وهم الأقلون، فالمقل في المال، والمقل في زاده من الدنيا هو الذي يسرع إلى الجنة ويدخلها، والمكثر من الدنيا الذي معه الأموال الكثيرة يحبس عن الجنة حتى يحاسب على هذا الكثير الذي معه.
ثم قال صلى الله عليه وسلم له: (وقليل ما هم) بعد قوله: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة)، قال أبو ذر: ثم قال لي: (مكانك، لا تبرح حتى آتيك، ثم انطلق في سواد الليل حتى توارى، فسمعت صوتاً قد ارتفع، فتخوفت أن يكون أحد عرض للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلم أبرح حتى أتاني، فقلت: لقد سمعت صوتاً تخوفت منه، فذكرت ذلك له، فقال: وهل سمعته؟ قال: قلت: نعم، قال: ذاك جبريل أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قال: قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق).
وفي رواية أخرى قال له مكرراً: (وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق.
قال: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق على رغم أنف أبي ذر).
فرحمة الله عز وجل عظيمة واسعة، فالإنسان الذي يقع في الحرام عليه أن يسرع بالتوبة إلى الله؛ فالله غفور رحيم، ورءوف كريم، ولكن الذي تأخذه الدنيا فيغرق في أموالها ويغرق في شهواتها ويضيع نفسه في شبهاتها ولا يتدارك نفسه بالعودة إلى الله عز وجل يندم حين الموت، ولا رجوع إلى الدنيا مرة ثانية.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.