بالأعمال الزاكية، يَعُدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأنزاه برآء، ومع المقصِّرين والمفرِّطين، وإنهم لأكياس أقوياء، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير، ولا يرضون لله بالقليل، ولا يُدِلُّون عليه بالأعمال فهم مروّعون مفزعون مغتمون خاشعون وجلون مستكينون معترفون، متى ما رأيتهم يا أيوب.
قال أيوب: إن الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى نبتت في القلب يظهرها الله على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السنّ، ولا الشبيبة ولا طول التجربة، وإذا جعل الله العبد حكيما في الصيام لم يسقط منزله عند الحكماء، وهم يرون عليه من الله نور الكرامة، ولكنكم قد أعجبتكم أنفسكم، وظننتم أنكم عوفيتم بإحسانكم، فهنالك بغيتم وتعزّزتم، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم، ثم صدقتم أنفسكم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم، ولكني قد أصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، قد كنت فيما خلا مسموعا كلامي، معروفا حقي، منتصفا من خصمي، قاهرا لمن هو اليوم يقهرني، مهيبا مكاني، والرجال مع ذلك ينصتون لي ويوقروني، فأصبحت اليوم قد انقطع رجائي، ورفع حذري، وملَّني أهلي، وعقني أرحامي، وتنكرت لي معارفي، ورغب عني صديقي، وقطعني أصحابي، وكفرني أهل بيتي، وجُحِدَتْ حقوقي، ونُسِيت صنائعي، أصرخ فلا يُصْرِخونني، وأعتذر فلا يعذرونني، وإن قضاءه هو الذي أذلني، وأقمأني وأخسأني، وأن سُلطانه، هو الذي أسقمني وأنحل جسمي، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري، وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي، ثم كان ينبغي للعبد يحاجَّ عن نفسه، لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني، ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه لا نظر إليّ فرحمني، ولا دنا مني ولا أدناني، فأدلي بعذري، وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.
لما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده، أظله غمام حتى ظنّ أصحابه أنه عذاب، ثم نودي منه، ثم قيل له: يا أيوب، إن الله يقول: ها أنا ذا قد دنوت منك، ولم أزل منك قريبا، فقم فأدل بعذرك الذي زعمت، وتكلم ببراءتك، وخاصم عن نفسك، واشدد إزارك، ثم ذكر نحو حديث ابن عسكر، عن إسماعيل، إلى آخره، وزاد فيه: ورحمتي سبقت غضبي، فاركُض برجلك هذا