ثم استدل بآيات من كتاب الله وقال:"ليس المراد بعمارتها، زخرفتها وإقامة صورتها، فقط، إنما عمارتها بذكر الله وإقامة شرعه فيها" إلى آخر ما قاله. هذا الاعتراض من ابن كثير على أبي جعفر رحمهما الله، ليس يقوم في وجه حجة الطبري على صواب ما ذهب إليه في تأويل الآية. والطبري لم يغفل عن مثل اعتراض ابن كثير، ولكن ابن كثير غفل عن سياق تأويل الطبري. وصحيح أن ما كان من أمر أهل الشرك في الجاهلية في البيت الحرام يدخل في عموم معنى قوله: {وَسَعَى فِي خَرَابها} ، ولكن سياق الآيات السابقة، ثم التي تليها، توجب-كما ذهب إليه الطبري- أن يكون معنيا بها من كانت الآيات نازلة في خبره وقصته. والآيات السالفة جميعا خبر عن بني إسرائيل الذين كانوا على عهد موسى، وتأنيب لبني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ما كان منهم لأهل الإيمان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تحذير لهم من أهل الكتاب جميعا، يهوديهم ونصرانيهم، وذكر لافتراء الفريقين بعضهم على بعض، وادعاء كل فريق أنه هو الفريق الناجي يوم القيامة. ثم أفرد بعد ذلك أخبار النصارى، كما أفرد من قبل أخبار بني إسرائيل، فعدد سوء فعلهم في منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ثم كذبهم على ربهم أنه اتخذ ولدا، ثم قول بعضهم: {لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية} ، وأن ذلك شيبه بقول اليهود: {أرنا الله جهرة} ، ثم أخبر أنه أرسل رسوله محمدا بشيرا ونذيرا، وأمره أن يعرض عن أهل الجحيم من هؤلاء وهؤلاء، ثم أعلنه أن اليهود والنصارى جميعا لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم وطريقهم، في الافتراء على رب العالمين. فالسياق كما ترى، بمعزل عن المشركين من العرب، ولكن ابن كثير وغيره من أئمتنا رضوان الله عليهم، تختلط عليهم المعاني حين تتقارب، ولكن أبا جعفر صابر على كتاب ربه، مطيق لحمله، لا يعجله شيء عن شيء ما استطاع. فهو يخلص معاني كتاب ربه تخليصا لم أجده قط لأحد بعده، ممن قرأ كتابه. وأكثرهم يعترض عليه، ولو صبر على دقة هذا الإمام. لكان ذلك أولى به، وأشبه بخلق أهل العلم، وهم له أهل، غفر الله لنا ولهم.