وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يُنكر هذا الذي قاله هذا القائل، وابتداء إن بعد ما، ويقول: ذلك جائز مع ما ومن، وهو مع ما ومَنْ أجود منه مع الذي، لأن الذي لا يعمل في صلته، ولا تعمل صلته فيه، فلذلك جاز، وصارت الجملة عائد "ما"، إذ كانت لا تعمل في "ما"، ولا تعمل "ما" فيها; قال: وحسن مع "ما" و "من"، لأنهما يكونان بتأويل النكرة إن شئت، والمعرفة إن شئت، فتقول: ضربت رجلا ليقومن، وضربت رجلا إنه لمحسن، فتكون "من" و"ما" تأويل هذا، ومع "الذي" أقبح، لأنه لا يكون بتأويل النكرة.
وقال آخر منهم في قوله:(لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) : نَوْءُها بالعصبة: أن تُثْقلهم; وقال: المعنى: إن مفاتحه لَتُنِيءُ العصبة: تميلهن من ثقلها، فإذا أدخلت الباء قلت: تنوء بهم، كما قال:(آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) قال والمعنى: ائتوني بقطر أفرغ عليه; فإذا حذفت الباء، زدت على الفعل ألفا في أوله; ومثله:(فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ) معناه: فجاء بها المخاض; وقال: قد قال رجل من أهل العربية: ما إن العصبة تنوء بمفاتحه، فحوّل الفعل إلى المفاتح، كما قال الشاعر:
وهو الذي يحلى بالعين، قال: فإن كان سمع أثرًا بهذا، فهو وجه، وإلا فإن الرجل جهل المعنى، قال: وأنشدني بعض العرب:
(١) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة الورقة ٢٤٢) وقد تقدم الاستشهاد به في (٣: ٣١٢) من هذا التفسير، على مثل ما استشهد به هنا، مع أبيات أخر. وقلنا في تفسيره هناك: جهرت فلانًا العين تجهره: نظرت إليه فرأته عظيمًا، فحلى هو فيها. هذا هو أصل المعنى، ولكن الشاعر قلب المعنى. فجعل العين تحلى بالمرئي إذا رأته، فهو كالشاهدين اللذين قبله. وقال الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة ٢٤٠٥٩) في التعليق على قول الله تعالى: (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) : ونوءها بالعصبة أن تثقلهم. والعصبة هاهنا: أربعون رجلا. ومفاتحه: خزائنه. والمعنى: ما إن مفاتحه لتنيء العصبة أي تميلهم من ثقلها؛ فإذا دخلت الباء قلت: تنوء بهم كما قال: (آتوني أفرغ عليه قطرًا) والمعنى: ائتوني بقطر أفرغ عليه. فإذا حذفت الباء رددت في الفعل ألفًا في أوله. ومثله: (فأجاءها المخاض) . معناه: فجاء بها المخاض. وقد قال رجل من أهل العربية: إن المعنى: ما إن العصبة لتنوء بمفاتحه فحول الفعل إلى المفاتح، كما قال الشاعر: "إن سراجًا ... " البيت، وهو الذي يحلى بالعين. فإذا كان سمع بهذا أثرًا، فهو وجه، وإلا فإن الرجل جهل المعنى. اه.