للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بقوله (إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى) موتة من نوع الأولى هم ذائقوها، ومعلوم أن ذلك ليس كذلك، لأن الله عزّ وجلّ قد آمَن أهل الجنة في الجنة إذا هم دخلوها من الموت، ولكن ذلك كما وصفت من معناه. وإنما جاز أن توضع"إلا" في موضع"بعد" لتقارب معنييهما في هذا الموضع وذلك أن القائل إذا قال: لا أكلم اليوم رجلا إلا رجلا بعد رجل عند عمرو قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلا بعد كلام الرجل الذي عند عمرو.

وكذلك إذا قال: لا أكلم اليوم رجلا بعد رجل عند عمرو، قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلا إلا رجلا عند عمرو، فبعد، وإلا متقاربتا المعنى في هذا الموضع. ومن شأن العرب أن تضع الكلمة مكان غيرها إذا تقارب معنياهما، وذلك كوضعهم الرجاء مكان الخوف لما في معنى الرجاء من الخوف، لأن الرجاء ليس بيقين، وإنما هو طمع، وقد يصدق ويكذب كما الخوف يصدق أحيانا ويكذب، فقال في ذلك أبو ذُؤَيْب:

إذا لَسَعَتْهُ الدَّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَها ... وَخَالَفهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلُ (١)

فقال: لم يرج لسعها، ومعناه في ذلك: لم يخف لسعها، وكوضعهم الظنّ موضع العلم الذي لم يدرك من قِبل العيان، وإنما أدرك استدلالا أو خبرا، كما قال الشاعر:

فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ في الفَارِسِيّ المُسَرَّدِ (٢)


(١) البيت لأبي ذؤيب. وهو شاهد على أن لم يرج: أي لم يخف. وقد سبق الاستشهاد به في هذا التفسير، وتقدم الكلام عليه مفصلا (انظره في ٥: ٢٦٤ من هذه الطبعة) . وفي قافيته:"عواسل" في موضع عوامل. وكلتاهما صحيحة.
(٢) البيت لدريد بن الصمة الجشمي. (اللسان: ظنن) . قال: الجوهري: الظن معروف. وقد يوضع موضع العلم. قال دريد ابن الصمة:"فقلت لهم ظنوا ... " البيت: أي استيقنوا، وإنما يخوف عدوه باليقين لا بالشك. والشاهد في البيت عند المؤلف أن العلم قد يوضع في موضع الظن، كما أن الرجاء قد يوضع موضع الخوف.

<<  <  ج: ص:  >  >>