للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إنما أُمِروا أن يبتدئوا عند فواتح أمورِهم بتسمية الله، لا بالخبر عن عظمته وصفاته، كالذي أمِروا به من التسمية على الذبائح والصَّيد، وعند المَطعم والمَشرب، وسائر أفعالهم. وكذلك الذي أمِروا به من تسميته عند افتتاح تلاوة تنزيل الله، وصدور رسائلهم وكتبهم.

ولا خلاف بين الجميع من علماء الأمة، أن قائلا لو قال عند تذكيته بعض بهائم الأنعام (١) "بالله"، ولم يقل "بسم الله"، أنه مخالف - بتركه قِيلَ: "بسم الله" ما سُنَّ له عند التذكية من القول. وقد عُلم بذلك أنه لم يُرِدْ بقوله "بسم الله" "بالله"، كما قال الزاعم أن اسمَ الله في قول الله: "بسم الله الرحمن الرحيم" هو الله. لأن ذلك لو كان كما زعم، لوجب أن يكون القائل عند تذكيته ذبيحتَه "بالله"، قائلا ما سُنَّ له من القول على الذبيحة. وفي إجماع الجميع على أنّ قائلَ ذلك تارك ما سُنَّ له من القول على ذبيحته - إذْ لم يقل "بسم الله" - دليلٌ واضح على فساد ما ادَّعى من التأويل في قول القائل: "بسم الله"، أنه مراد به "بالله"، وأن اسم الله هو الله.

وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في الإبانة عن الاسم: أهُوَ المسمى، أمْ غيرُه، أم هو صفة له؟ فنطيل الكتاب به، وإنما هذا موضع من مواضع الإبانة عن الاسم المضاف إلى الله: أهو اسمٌ، أم مصدر بمعنى التسمية (٢) ؟


(١) التذكية: النحر والذبح. ذكيت الشاة تذكية: ذبحتها.
(٢) استجاد أبو جعفر رضي الله عنه خير الرأي لحجته. والذي كتبه قبل، وما يأتي بعد، من أقوم ما قيل في شرح هذا الموضع الذي لجت فيه العقول والأقلام. وبيان ما قال أبو جعفر: إن قولك "اسم" في "بسم الله"، إنما هو اسم مصدر (أو اسم حدث) ، أي هو في الأصل اسم لما تفعل من تسميتك الشيء، مثل "الكلام" اسم حدث لما تفعل من التكليم، ومثل "العطاء" اسم حدث لما تفعل من الإعطاء، ومثل "الغسل"، اسم حدث لما تفعل من الاغتسال. وكأن أصله من قولك "سموت الشيء سموا"، فأماتوا فعله الثلاثي وبقي مصدره، "سمو"، فحذفوا واوه المتطرفة، فصار "سم" فأعاضوه منها ألفًا في أوله، فصار "اسم"، كما كان قولك: "كلام" من فعل ثلاثي هو "كلم كلامًا"، على مثال "ذهب ذهابًا"، فأماتوا الفعل الثلاثي وبقي مصدره "كلام"، فجعلوه اسم حدث لما تفعل من التكليم، ثم أخرجوا مصدر الرباعي على مخرج اسم هذا الحدث، فقالوا: "كلم يكلم كلامًا"، بمعنى "كلم يكلم تكليمًا".
فكذلك فعلوا في قولهم "سمى يسمى تسمية": أخرجوا لهذا الرباعي مصدرًا على مخرج اسم الحدث وهو "اسم"، فقالوا: "سمى يسمى اسمًا"؛ بمعنى "سمى يسمى تسمية". فقولك "كلام" بمعنى "تكليم" وقولك "اسم" بمعنى "تسمية" صُدِّرا على مخارج أسماء الأحداث. وإذن فالمضاف إلى اسمه تعالى في قولك "بسم الله" وأشباهها، إنما هو مصدر صدر على مخرج اسم الحدث، وهو اسم، من فعل رباعي هو "سمى يسمي"، فكان بمعنى مصدره وهو "تسمية". وهو في هذا المكان وأمثاله بمعنى المصدر "تسمية"، لا بمعنى اسم الحدث لما تفعل من التسمية. (انظر: ١٢٣- ١٢٤، كلام الطبري في "أله") .
وهذا الذي قاله أبو جعفر رضي الله عنه أبرع ما قيل في شرح هذا الحرف من كلام العرب. وقد أحسن النظر وأدقه، حتى خفي على جلة العلماء الذين تكلموا في شرح معنى "اسم" في "بسم الله" وأشباهها، فأغفلوه إغفالا لخفائه ووعورة مأتاه، وإلفهم للكلام في الذي افتتحوه من القول في "الاسم"، أهو المسمى أم غيره، أم هو صفة له، وما رسمه وما حده؟ وهذا باب غير الذي نحن فيه، فخلطوا فيه خلطًا، فجاء الطبري فمحص الحق تمحيصًا، وهو أرجح الآراء عندنا وأولاها بالتقديم، لمن وفق لفهمه، كما يقول أبو جعفر غفر الله له. وسيذكر بعد من الحجة ما يزيد المعنى وضوحًا وبيانًا. ولولا خوف الإطالة، لأتيت بالشواهد على ترجيح قول الطبري الذي أغفلوه، على كل رأي سبقه أو أتى بعده.

<<  <  ج: ص:  >  >>