للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عنه أنه قال:"هو علمه" (١) . وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره:"ولا يؤوده حفظهما" على أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يؤوده حفظ ما علم، وأحاط به مما في السموات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) [غافر: ٧] ،


(١) العجب لأبي جعفر، كيف تناقض قوله في هذا الموضع! فإنه بدأ فقال: إن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم، من الحديث في صفة الكرسي، ثم عاد في هذا الموضع يقول: وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن، فقول ابن عباس أنه علم الله سبحانه. فإما هذا وإما هذا، وغير ممكن أن يكون أولى التأويلات في معنى"الكرسي" هو الذي جاء في الحديث الأول، ويكون معناه أيضًا "العلم"، كما زعم أنه دل على صحته ظاهر القرآن. وكيف يجمع في تأويل واحد، معنيان مختلفان في الصفة والجوهر! ! وإذا كان خبر جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد، فإن الخبر الآخر الذي رواه مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد علىشرط الشيخين، كما قال الحاكم، وكما في مجمع الزوائد ٦: ٣٢٣" رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح"، كما بينته في التعليق على الأثر: ٥٧٩٢. ومهما قيل فيها، فلن يكون أحدهما أرجح من الآخر إلا بمرجح يجب التسليم له. وأما أبو منصور الأزهري فقد قال في ذكر الكرسي: "والصحيح عن ابن عباس ما رواه عمار الدهنى، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: "الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره. قال: وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها. قال: ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم، فقد أبطل"، وهذا هو قول أهل الحق إن شاء الله.
وقد أراد الطبري أن يستدل بعد بأن الكرسي هو"العلم"، بقوله تعالى: "ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما"، فلم لم يجعل"الكرسي" هو"الرحمة"، وهما في آية واحدة؟ ولم يجعلها كذلك لقوله تعالى في سورة الأعراف: ١٥٦: "قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء"؟ واستخراج معنى الكرسي من هذه الآية كما فعل الطبري، ضعيف جدا، يجل عنه من كان مثله حذرا ولطفا ودقة.
وأما ما ساقه بعد من الشواهد في معنى"الكرسي"، فإن أكثره لا يقوم على شيء، وبعضه منكر التأويل، كما سأبينه بعد إن شاء الله. وكان يحسبه شاهدا ودليلا أنه لم يأت في القرآن في غير هذا الموضع، بالمعنى الذي قالوه، وأنه جاء في الآية الأخرى بما ثبت في صحيح اللغة من معنى"الكرسي"، وذلك قوله تعالى في"سورة ص": "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب". وكتبه محمود محمد شاكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>