للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأما الوجه الآخر، فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستحْيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها، ثم حذف ذكر"بين" و"إلى"، إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في"ما" الثانية، دلالة عليهما، كما قالت العرب:"مُطِرنا ما زُبالة فالثَعْلَبِيَّة" و"له عشرون ما ناقة فجملا"، و"هي أحسنُ الناس ما قرنًا فقدمًا"، يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها (١) . وكذلك يقولون في كل ما حسُن فيه من الكلام دخول:"ما بين كذا إلى كذا"، ينصبون الأول والثاني، ليدلّ النصبُ فيهما على المحذوف من الكلام (٢) . فكذلك ذلك في قوله:"ما بعوضة فما فوقها" (٣) .

وقد زعم بعضُ أهل العربية أنّ "ما" التي مع المثَل صلةٌ في الكلام بمعنى التطوُّل (٤) وأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضربَ بعوضةً مثلا فما فوقها. فعلى هذا التأويل، يجب أن تكون"بعوضةً" منصوبةً بـ "يضرب"، وأن تكون"ما" الثانية التي في"فما فوقها" معطوفة على البعوضة لا على"ما".

وأما تأويل قوله"فما فوقها": فما هو أعظم منها (٥) -عندي- لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جُريج: أن البعوضة أضعف خلق الله، فإذْ كانت أضعف خلق الله فهي نهايةٌ في القلة والضعف. وإذ كانت كذلك، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء، لا يكون إلا أقوى منه. فقد يجب أن يكون المعنى


(١) في المخطوطة: "يعنون بذلك من قرنها. . ".
(٢) في المخطوطة: "ليدل النصب في الأسماء على المحذوف. . . "، وهما سواء
(٣) أكثر هذا من كلام الفراء في معاني القرآن ١: ٢١ - ٢٢، وذكر الوجهين السالفين جميعًا، وكلامه أبسط من كلام الطبري وأبين.
(٤) قد مضى قديمًا شرح معنى التطول (انظر: ١٨، ٢٢٤ وما يأتي ص: ٤٠٦، ١٥٤ من بولاق) ، وهو الزيادة في الكلام. وهذا الذي قال عنه: "زعم بعض أهل العربية"، هو الفراء نفسه، فقد ذكر هذا أول وجه من ثلاثة وجوه في الآية في معاني القرآن ١: ٢١، وقال: "أولها: أن توقع الضرب على البعوضة، وتجعل ما صلة، كقوله: "عما قليل ليصبحن نادمين"، يريد: عن قليل. المعنى -والله أعلم-: إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلا".
والذي يسميه الطبري البغدادي المذهب في النحو"تطولا"، يسميه الفراء الكوفي المذهب في النحو"صلة"، وهي الزيادة في الكلام.
(٥) في المخطوطة: "فهو ما قد عظم منها"، وهو خطأ بلا معنى.

<<  <  ج: ص:  >  >>