للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جاهليتكم من المناكح التي كنتم تناكحونها. (١)

* * *


(١) حجة أبي جعفر في هذا الموضع، حجة رجل بصير عارف بالكلام ومنازله، متمكن من أصول الاستنباط، قادر على ضبط ما ينتشر من المعاني، متابع لسياق الأحكام والأخبار في كتاب ربه، خبير بما كان عليه العرب في جاهليتهم.
وقد رد العلماء على أبي جعفر قوله، وقال بعضهم: هو قول غير وجيه. وذكروا أن"ما" تقع على أنواع من يعقل، وإن كانت لا تقع على آحاد من يعقل، عند من يذهب إلى المذهب. فجعلوا قول الطبري أن"ما" مصدرية باقية على معنى المصدر، قولا ضعيفًا. بيد أن مذهب أبي جعفر صحيح مستقيم لا ينال منه احتجاجهم عليه. وإنما ساقهم إلى ذلك، ترك أبي جعفر البيان عن حجته، وأنا قائل في ذلك ما يشفي إن شاء الله.
وذلك أن الذين ردوا مقالة أبي جعفر، أرادوا أن هذه الآية نص في تحريم نكاح حلائل الآباء وحده، وكأنهم حسبوا أن لو جعلوا"ما" مصدرية، لم يكن في الآيات نص صريح في تحريم حلائل الآباء غيرها. والصواب غير ذلك. فإن الله سبحانه وتعالى قد حرم نكاح حلائل الآباء الذي كان أهل الجاهلية يرتكبونه بقوله في الآية التاسعة عشرة من سورة النساء فيما مضى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} وقال أبو جعفر في تفسيرها: "لا يحل لكم أن ترثوا نكاح نساء أقاربكم وآبائكم كرهًا"، وساق هناك الآثار المبينة عن صورة نكاح حلائل الآباء والأقارب جميعًا. وهذا الذي ساق هناك فيه البيان عن صورة نكاح حلائل الآباء والأقارب بالوراثة، كما كان أهل الجاهلية يعرفونه. فكانت هذه الآية نصًا قاطعًا بينًا في تحريم نكاح حلائل الآباء والأقارب بالوراثة، كما عرفه أهل الجاهلية، لأنهم لم يعرفوا نكاح حلائل الآباء إلا على هذه الصورة التي بينها الله في كتابه، والتي أجمعت الأخبار على صفتها، أن يخلف الرجل على امرأة أبيه.
وأنا أرجح أن الله تبارك وتعالى إنما قال: "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا"، فذكر وراثتهن كرهًا، ثم أتبع ذلك بالنهي عن عضل النساء عامة، وبالبيان عن مقصدهم من عضل النساء، وهو الذهاب ببعض ما أوتين من صدقاتهن = لأن أهل الجاهلية، إنما تورطوا في نكاح حلائل الآباء، لشيء واحد: هو أخذ ما آتاهن الآباء من المال، ولئلا تذهب المرأة بما عندها من مال آبائهم، فلذلك أتبعه بالنهي عن العضل عامة، لأن فعلهم بحلائل آبائهم عضل أيضًا، ومقصدهم منه هو مقصدهم من عضل نسائهم.
وأيضًا، فإن أهل الجاهلية لم يرتكبوا نكاح العمات والخالات والأخوات، كما سترى بعد، بل استنكروه، فاستنكارهم نكاح حلائل الآباء - وهن بمنزلة أمهاتهن في حياة آبائهن - كان خليقًا أن يكون من فعلهم وعادتهم، ولكن حملهم حب المال على مخالفة ذلك.
ثم أتبع الله ذلك - كما قال أبو جعفر -"بالنهي عن مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحوها في الجاهلية، فحرم عليهم بهذه الآية نكاح حلائل الآباء وكل نكاح سواه، نهى الله عن ابتداء مثله في الإسلام، مما كان أهل الجاهلية يتناكحونه". وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها في حديث البخاري (الفتح ٩: ١٥٨) أن نكاح الجاهلية كان على أربعة أنحاء، منها: "نكاح الناس اليوم"، ثم عددت ضروب النكاح ووصفتها، فأقر الإسلام منها نكاحًا واحدًا: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها، ثم ينكحها.
فهذه الآية مبطلة ضروب نكاح الجاهلية جميعًا، ما كان منها نكاحًا فاسدًا، كالاستبضاع، ونكاح البغايا، ونكاح البدل، والشغار، فكل ذلك كان: فاحشة ومقتًا وساء سبيلا، كما تعرفه من صفته في حديث عائشة، ويدخل فيه، كما قال أبو جعفر، نكاح حلائل الآباء.
ثم أتبع الله سبحانه وتعالى هذه الآية التي حرمت جميع نكاح الجاهلية، آية أخرى حرمت كل نكاح كان معروفًا في الأمم الأخرى، غير العرب، أو في الملل الأخرى غير ملة الإسلام فقال: "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم" إلى آخر الآية. والعرب لم تعرف قط نكاح الأمهات، أو البنات أو الأخوات أو العمات أو الخالات، بل كان ذلك في غيرهم كالمصريين واليهود وأشباههم، ينكح الرجل أخته أو عمته أو خالته. ومن الدليل على أن العرب لم تعرف نكاح الأخوات، ولا نكاح العمات أو الخالات، أنهم كانوا في جاهليتهم، يقسمون على طلاق نسائهم أو تحريمهن على أنفسهم، أو هجرانهن، بقولهم للزوجة: "أنت علي كظهر أختي، أو كظهر عمتي، أو كظهر خالتي"، فكان ذلك عندهم تحريمًا على أنفسهم غشيان الزوجة. وهذا باب لم أجد أحدًا وفاه حقه، فعسى أن أوفق في موضع آخر إلى استيعابه إن شاء الله. وهو باب مهم في تفسير هذه الآيات، والله المستعان.
وإذن فهذه الآية الأخيرة، غير خاصة في نكاح أهل الجاهلية، بل هي تحريم لكل نكاح كرهه الله للمؤمنين، مما كان عند الأمم قبلهم جائزًا أو مرتكبًا، أو كان بعضه عندهم قليلا غير مشهور شهرة أنكحة الجاهلية التي ذكرها الله في وراثة حلائل الآباء والأقارب، والتي ذكرتها عائشة في حديثها، والتي جاء تحريمها عامًا في قوله: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" بمعنى"ما" المصدرية، كما ذهب إليه أبو جعفر. وكتبه: محمود محمد شاكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>