للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كوثى، من قرية بالسوادِ، سواد الكوفة، وكان إذ ذاك ملك المشرق النمرود، (١) فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم [عليه السلام، خليل الرحمن، حجة على قومه] ، (٢) ورسولا إلى عباده، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم نبيّ إلا هود وصالح، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله ما أراد، أتى أصحابُ النجوم نمرودَ فقالوا له: تَعَلَّمْ، أنّا نجد في عِلْمنا أن غلامًا يولد في قريتك هذه يقال له"إبراهيم"، (٣) يفارق دينكم، ويكسر أوثانكم، في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا. فلما دخلت السنة التي وصف أصحابُ النجوم لنمرود، بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده = إلا ما كان من أمّ إبراهيم امرأة آزر، فإنه لم يعلم بحبَلها، وذلك أنها كانت امرأة حَدَثة، فيما يذكر، لم تعرف الحبَل في بطنها، (٤) ولِمَا أرادَ الله أن يبلغ بولدها، (٥) = يريدُ أن يقتل كل غلام ولد في ذلك الشهر من تلك السنة، حذرًا على ملكه. فجعلَ لا تلد امرأة غلامًا في ذلك الشهر من تلك السنة، إلا أمر به فذبح. فلما وجدت أم إبراهيم الطَّلقَ خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبًا منها، فولدت فيها إبراهيم، وأصلحت من شأنه ما يُصْنع بالمولود، (٦) ثم سَدّت عليه المغارة، ثم رجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه في المغارة فتنظر ما فعل، فتجده حيًّا يمصّ إبهامه، يزعمون، والله أعلم، أن الله جعل رزق إبراهيم فيها وما يجيئه من مصّه. وكان آزر، فيما يزعمون، سأل أمّ إبراهيم عن حمْلها ما فعل، فقالت: ولدت غلامًا فمات! فصدّقها، فسكت عنها. وكان اليوم، فيما يذكرون، على إبراهيم في الشَّباب كالشهر، والشهر كالسنة. فلم يلبث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرًا حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر! فأخرجته عِشاء فنظر، وتفكر في خلق السماوات والأرض، وقال:"إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربّي، ما لي إله غيره"! ثم نظر في السماء فرأى كوكبًا، قال:"هذا ربي"، ثم اتّبعه ينظر إليه ببصره حتى غاب، فلما أفل قال:"لا أحب الآفلين"، ثم طلع القمر فرآه بازغًا، قال:"هذا ربي"، ثم اتّبعه ببصره حتى غاب، فلما أفل قال:"لئن لم يهدني ربّي لأكونن من القوم الضالين"! فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس، أعظَمَ الشمسَ، (٧) ورأى شيئًا هو أعظم نورًا من كل شيء رآه قبل ذلك، فقال:"هذا ربي، هذا أكبر"! فلما أفلت قال:"يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين". ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته، وعرف ربَّه، وبرئ من دين قومه، إلا أنه لم يبادئهم بذلك. وأخبر أنه ابنه، وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه، وأخبرته بما كانت صنعت من شأنه، فسرَّ بذلك آزر وفرح فرحًا شديدًا. وكان آزر يصنع أصنام قومِه التي يعبدونها، ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيذهب بها إبراهيم، فيما يذكرون، فيقول:"من يشتري ما يضرُّه ولا ينفعه"، فلا يشتريها منه أحد. فإذا بارت عليه، (٨) ذهب بها إلى نهر فصوَّبَ فيه رؤوسها، (٩) وقال:"اشربي"، استهزاء بقومه وما هم عليه من الضلالة، حتى فشا عيبُه إياها واستهزاؤُه بها في قومه وأهل قريته، من غير أن يكون ذلك بلغ نمرودَ الملك. (١٠)

* * *

قال أبو جعفر: وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن ابن عباس وعمن روي عنه، من أن إبراهيم قال للكوكب أو للقمر:"هذا ربي"، وقالوا: غير جائز أن يكون لله نبيٌّ ابتعثه بالرسالة، أتى عليه وقتٌ من الأوقات وهو بالغٌ إلا وهو لله موحدٌ، وبه عارف، ومن كل ما يعبد من دونه برئ. قالوا: ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات وهو به كافر، لم يجز أن يختصه بالرسالة، لأنه لا معنى فيه إلا وفي غيره من أهل الكفر به مثله، وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة، فيحابيه باختصاصه بالكرامة. قالوا: وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه، فأثابه لاستحقاقه الثوابَ بما أثابه من الكرامة. وزعموا أن خبرَ الله عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو القمر أو الشمس:"هذا ربي"، لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربّه، وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه، وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام، إذْ كان الكوكبُ والقمرُ والشمسُ أضوأ وأحسنَ وأبهجَ من الأصنام، ولم تكن مع ذلك معبودة، وكانت آفلةً زائلة غير دائمة، والأصنام التي [هي] دونها في الحسن وأصغرَ منها في الجسم، أحقُّ أن لا تكون معبودة


(١) في المطبوعة: "لنمرود بن كنعان"، وليس ذلك في المخطوطة، ولا في تاريخ الطبري ١: ١١٩، بل الذي هناك: "لنمرود الخاطئ، وكان يقال له: الهاصر. وكان ملكه فيما يزعمون قد أحاط بمشارق الأرض ومغاربها، وكان ببابل. . ."، فاختصر أبو جعفر الخبر كعادته. وهو خبر قسمه أبو جعفر في تاريخه، فروى صدره هذا، ثم فصل، ثم عاد إلى حديث ابن إسحق.
(٢) الزيادة بين القوسين من تاريخ أبي جعفر ١: ١١٩.
(٣) "تعلم" (بفتح التاء والعين وتشديد اللام المفتوحة) فعل أمر بمعنى: اعلم، يكثر ورودها في سيرة ابن إسحق، ويخطئ كثير من الناس في ضبطها من قلة معرفتهم بالكلام.
(٤) "امرأة حدثة" (بفتحات) : حديثة السن صغيرة، بينة الحداثة. والمذكر: "رجل حدث"، أي شاب صغير. وكان في المطبوعة: "حدبة" بالباء، وهو خطأ صرف، وهي في المخطوطة غير منقوطة، والصواب في تاريخ الطبري.
(٥) في المطبوعة: "ولما أراد الله أن يبلغ بولدها أراد أن يقتل. . ." غير ما كان في المخطوطة، لأنه لم يفهم سياق الكلام، فوضع مكان"يريد"، "أراد". وسياق الكلام: ". . . بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده. . . يريد أن يقتل كل غلام. . ."، ووضعت العبارة الفاصلة في شأن ولدها بين خطين، لذلك. وقوله"ولما أراد الله. . ."، أي وللذي أراد الله. وهذه الجملة ليست في تاريخ أبي جعفر، اختصر الكلام هناك كعادته.
(٦) في المطبوعة: "ما يصنع مع المولود"، أراد الناشر ترجمة كلام أبي جعفر إلى سقم عربيته!! ، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(٧) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "أعظم الشمس"، كأنه يعني: استعظمها، ووجدها عظيمة، وهو صواب في المعنى، وأما في التاريخ فهناك: "رأى عظم الشمس"، وهو صواب أيضًا.
(٨) هكذا في التاريخ، وفي المخطوطة: "وإذا بات عليه" غير منقوطة، فأثبت ما في التاريخ.
(٩) في المطبوعة والمخطوطة: "فضرب فيه رؤوسها"، والصواب من التاريخ. و"صوب رؤوسها"، نكسها.
(١٠) الأثر: ١٣٤٦٤ - هذا الأثر رواه أبو جعفر في تاريخه مطولا ١: ١١٩، ١٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>