ومبناه ما في آخِر الحديثِ أنَّه - صلى اللهُ تعالى عليه وسلَّم - رأى بعدَ صلاةِ الصُّبْح خِيَمَ الأزْوَاج المُطَهَّرَاتِ بقصْد الاعْتِكَاف فتَركَ الاعتكافَ في تلك السَّنَة، والظَّاهر أنَّه ما تَركَ إلا قبلَ الشُّرُوْع إذ يُستَبْعدُ التَّركُ بعدَ الشُّرُوْع لمثْل تلك المَصْلَحةِ بخِلافِ التَّرْك قبلَ الشُّرُوع فإنَّه أسهل، سِيَّمَا على قولِ من لا يجَوِّزُ الخروجَ بعدَ الشُّروع فيُشْكَل عليهم هذا التأويل.
قلتُ: وفي ذلك التأويل إشكالٌ وهو أن لفظَ الحديثِ يُعْطِي أنَّه كانَ يدخلُ المَعْتَكَفَ حينَ يُريد الاعتكافَ، لا أنَّه يدخلُ فيه بعدَ ما شَرَعَ في الاعتكافِ من اللَّيْل، وأيضًا المَفْهُومُ من هذَا الكَلامِ، المُتَبادَرُ منه أنَّه بيانٌ لكَيْفِيَّةِ الشُّرُوْع في الاعتكافِ من اللَّيْلَة السَّابِقَة لا من الصُّبْح، [فلو فُرِضَ أنَّه شَرعَ في الاعتكافِ من اللَّيْل](١) لكن وقتَ الصُّبْح دخلَ المُعْتكفَ كانَ هذَا الكلامُ بعيدًا قليلَ الفَائِدَة جِدًّا، ثم يَلْزَم على هذا التأوْيْل أنْ يكونَ السُنَّةُ للمُعْتَكَفِ أنْ يلبثَ أوَّلَ ليلةٍ في المَسْجِد ولا يدخل في المعتكفِ، وإنَّما يدخلُ فيه منَ الصُّبْح بعدَ صلاةِ الفَجْر وهو أمرٌ غيرُ متَعَارفٍ عندَ الجمهور، وهذا لازمٌ عليهم وإلا بلزَمُ تركُ العملِ بالحديثِ رأسًا لا العملُ به، ومع لزومِ تَرْكِ العملِ لا حاجةَ إلى التَّأويلِ أصلًا، وإنَّما التأويلُ لدَفْع لُزُوْم تَرْكِ العَمَل، فإذَا لَزِم تركُ العَمَل فأيُّ فائدةٍ في التَّأويل؟
وأمَّا جوابُ صاحبِ المحرر وهو حَمْلُ الحديث على الجَواز على أن معنى [الاعتكافِ] المَسْنُون للمُعْتكِف أن يدخلَ من اللَّيلة، وجازَ له أن يدخلَ من صبحِ تلك اللَّيْلة، فبَيَّنَ ﷺ بفعْلِه ذلك الجوازَ حيثُ لم يَدْخُلْ من اللَّيْلة بل من صُبْحِها فلا يُنَاسِب قولَ الجمهور؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ اللَّيلة الأوْلى
(١) ما بين المعقوفين سقط من المخطوط، والزيادة من حاشية السندي على البخاري.