للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أهل الإثبات، وقامت حُجتهم عليهم؛ عدلوا إلى عقوبتهم وإلزامهم بالأخذ بأقوالهم ومذاهبهم بالضرب والحبس والقتل، وتارةً يأخذونهم بالرغبة في الدنيا ومناصبها وزينتها، فلا تُقبَل أقوالهم إلَّا برغبةٍ أو رهبةٍ، والناس إلَّا القليل منهم عبيد رغبةٍ ورهبةٍ. وبهذه الطريقة أخذ إمامُ المعطِّلة فرعونُ قومه حين قال للسحرة لمَّا ظهرت حُجة موسى عليه، وصحَّت دعوته، وصحَّت نبوته، وأُلقِيَ السحرة ساجدين إيمانًا بالله وتصديقًا برسوله: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ اِلنَّخْلِ} [طه: ٧٠]. ولمَّا تمكن الإيمانُ من قلوبهم علموا أن عقوبة الدنيا أسهل من عقوبة الآخرة وأقل بقاءً، وأن ما يحصل لهم في الآخرة من ثواب الإيمان أعظمُ وأنفع وأكثر بقاءً.

فهذه العقول التي قدَّموا بها خيرَ الآخرة على خير الدنيا، وعقوبةَ الدنيا وألمَها المنقضي على عقوبة الآخرة وألمِها الدائم، هي العقول التي أثبتوا بها صانع العالم وصفاته وعلوه على عرشه، وتكليمه لموسى، وغضبه ورضاه ومحبته ورحمته وسمعه وبصره ومجيئه وإتيانه وأفعاله.

وأمَّا إمام المعطِّلة النُّفاة وقومه فإنهم بالعقول ـ التي قدَّموا بها عاجلَ الدنيا وزينتَها وزُخرفَها على آجل الآخرة، وباعوا بها الذهب الباقي بالخزف الفاني، وآثروا بها خُسران الدنيا والآخرة على العبودية والانقياد لموسى والإيمان بالله وحده ـ هي العقول التي (١) نفوا بها مباينةَ الله لخَلقه، واستواءَه على عرشه، وتكليمَه لموسى، ونفوا بها صفاتِ كماله من السمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة، بل نفى بها شيخُهم وإمامُهم نفس الذات، فقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: ٣٨]. فهذه العقول التي دلتهم في


(١) كذا والسياق غير مترابط، ولعل ذلك نشأ من طول الجملة الاعتراضية.