للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

النفي والتعطيل هي تلك العقول التي آثَروا بها الدنيا على الآخرة، ففاتتهم الدنيا والآخرة، بل آثروا بها العقوبة العاجلة وأسبابها على العافية والنعمة، فمَن الذي يتخير بعد ذلك تقديم ما حكمت به هذه العقولُ السخيفة [ق ١١٤ ب] من التعطيل والنفي على ما جاءت به الرسل من الإثبات المفصل؟!

والمقصود أن هؤلاء إنما يأخذون الناس بالرغبة والرهبة، لا بالحُجة والبيان. ولهذا لمَّا علم إمامهم فرعون أنه لا يقاوم بها موسى عدل معه إلى التوعد بالسجن، فقال: {لَئِنِ اِتَّخَذتَّ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: ٢٨].

وكذلك فَعَل أصحاب الأخدود مع المؤمنين (١)، وكان ذنبهم عند ربهم أن آمنوا بالله وصفاته ورسله وكُتبه ولقائه. وكذلك فعلت الجهمية بأولياء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه في أُمته أهل السُّنَّة والحديث من [القتل] (٢) والضرب والحبس، ما فعلوه بأحمد بن حنبل وأمثاله. وكان ذنبهم عند ربهم أن أثبتوا لله صفاتِ كماله ونعوتَ جلاله، ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفه رسولُه من غير تجاوز ولا تقصير. ولمَّا لم يقم لهم عليهم حُجة نقلية ولا عقلية ـ إذ من (٣) المحال أن تقوم حُجةٌ صحيحةٌ على نقيض ما أخبرت به الرسل عن الله ـ عدَلوا معهم إلى العقوبة، وتوصلوا بالتدليس والتلبيس على أولياء الأمر والجُهَّال (٤)، فأوقعوا في نفوسهم أن هؤلاء مُشبِّهةٌ مُجسِّمةٌ.


(١) أخرج مسلم (٣٠٠٥) عن صهيب الرومي - رضي الله عنه - قصتهم مطولة.
(٢) «ح»: «الثقل». تحريف.
(٣) «ح»: «أدنى». ولعل المثبت هو الصواب.
(٤) كذا في «ح»، ولعل الصواب «الجهال» بغير واو.