للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لكان يصطفي لنفسه، ويجعل هذا الولد المتخذ من الجوهر الأعلى السماوي الموصوف بالخلوص والنقاء من عوارض البشر، المجبول على الثبات والبقاء، لا من جوهر هذا العالَم الفاني الداثر (١) الكثير الأوساخ والأدناس والأقذار.

ولمَّا كان هذا الحِجاج كما ترى في هذه القوة والجلالة أتبعه بقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: ١٨]. ونظير هذا قوله: {لَّوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاَصْطَفَى ممَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر: ٥]

وقال سبحانه: {مَّا اَلْمَسِيحُ اُبْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ اِلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ اِلطَّعَامَ اَنظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ اُلْأيَاتِ ثُمَّ اَنظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: ٧٧] وقد تضمنت هذه الحُجة دليلين يبطلان إلهيَّة المسيح وأمه:

أحدهما: حاجتهما إلى الطعام والشراب، وضعف بِنْيتهما عن القيام بنفسهما، بل هي محتاجة فيما يُقِيمها إلى الغذاء والشراب، والمحتاج إلى غيره لا يكون إلهًا؛ إذ من لوازم الإله أن يكون غنيًّا.

الثاني: أن الذي يأكل الطعام يكون منه ما يكون من الإنسان من الفضلات القذرة التي يستحي الإنسان من نفسه وغيره حال انفصالها عنه، بل يستحي من التصريح بذكرها. ولهذا ـ والله أعلم ـ كنَّى سبحانه عنها بلازمها من أكل الطعام الذي ينتقل الذهن منه إلى ما يلزمه من هذه الفضلة،


(١) في النسختين: «الدائر». ولعل الصواب ما أثبته. والداثر: الدارس، يقال: دثَرَ الرسمُ وتداثر واندثر: قَدُمَ ودرَسَ وعفا. «تاج العروس» (١١/ ٢٧٠ - ٢٧١).