للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بصوته لأصحابه: هَلُمُّوا، فهذه والله الطريق، وهذه أعلام مكة والمدينة، وهذه آثار القوم لم تنسخها الرياحُ، ولم تُزِلْها الأهوية. ثم قال (١):

وَكُنْتُ وَصَحْبِي فِي ظَلَامٍ مِنَ الدُّجَى ... نَسِيرُ عَلى غَيْرِ الطَّرِيقِ وَلَا نَدْرِي

/وَكُنَّا حَيَارَى فِي الْقِفَارِ وَلَمْ يَكُنْ ... دَلِيلٌ لَنَا نَرْجُو الْخَلَاصَ مِنَ الْقَفْرِ

ظِمَاءً إِلَى وِرْدٍ يَبُلُّ غَلِيلَنَا ... وَقَدْ قَطَعَ الْأَعْنَاقَ مِنَّا لَظَى الْحَرِّ

فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ تَبَدَّى لِنَاظِرِي ... سَنَا بَارِقٍ يَبْدُو كَخَيْطٍ مِنَ الْفَجْرِ

فَقُلْتُ لِصَحْبِي هَلْ تَرَوْنَ الَّذِي أَرَى ... فَقَالُوا اتَّئِدْ ذَاكَ السَّرَابُ الَّذِي يَجْرِي

فَخَلَّفْتُهُمْ خَلْفِي وَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ ... فَأَوْرَدَنِي عَيْنَ الْحَيَاةِ لَدَى الْبَحْرِ

فَنَادَيْتُ أَصْحَابِي فَمَا سَمِعُوا النِّدَا ... وَلَوْ سَمِعُوهُ مَا اسْتَجَابُوا إِلَى الْحَشْر

فهذا اعتراف هؤلاء الفضلاء في آخر سَيْرِهم بما أفادتهم الأدلة العقلية من ضد اليقين، ومن الحَيْرة والشكِّ؛ فمَن الذي شكا من القرآن والسُّنَّة والأدلة اللفظية هذه الشكاية، ومَن الذي ذَكَرَ أنها حيَّرَتْه ولم تَهْدِه؟ أوَلَيس بها هدى الله أنبياءه ورُسلَه وخيرَ خَلْقه؟ قال تعالى لأكمل خَلْقه وأوفرهم عقلًا: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّيَ} [سبأ: ٥٠]. فهذا أكمل الخَلْق عقلًا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يُخبِر أن اهتداءه بالأدلة اللفظية التي أوحاها الله إليه، وهؤلاء المتهوِّكون المتحيِّرون يقولون: إنها لا تُفيد يقينًا ولا عِلْمًا ولا هُدًى. وهذا موضع المَثَل المشهور: «رمتني بدائها وانسلَّتْ» (٢).


(١) الأبيات لم نقف على قائلها، ولعلها للإمام ابن القيم نفسه، وينظر «النونية» له (٢/ ٥٧٠ - ٥٧٢).
(٢) يُضرب لمن يُعَيِّر صاحبه بعيبٍ هو فيه. ينظر: «الأمثال» لأبي عبيد (ص ٧٣ - ٧٤) و «مجمع الأمثال» للميداني (١/ ١٠٢، ٢٨٦).