للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قد تكافأت وتعارضت فلم يُعرف الحق من الباطل، وصَدَقوا وكَذَبوا، أمَّا صِدْقهم فإن أدلتهم وطُرُقهم قد تكافأت وتصادمت حتى قال شاعرهم (١):

وَنَظِيرِي فِي الْعِلْمِ مِثْلِيَ أَعْمَى ... فَتَرَانَا فِي حِنْدِسٍ نَتَصَادَمْ

ولقد صدق هذا الأعمى البصر والبصيرة، ووصف حال القوم فأحسن والله الصفه (٢)، وعبَّر عن حالهم بأشد عبارةٍ مطابقة، بزُمرة عميان قاموا في ليلة مظلمة يتهاوشون (٣) ويتصادمون.

وأمَّا كَذِبهم فإن أدلة الحقِّ وشُبَه الباطل لا تتكافأ حتى يتكافأ الضوء والظلام، والبياض والسواد، والمسك وأنتن الجِيَف. فسبحان من أعمى عن الحق بصائر من شاء من خلقه، كما أعمى عن الشمس أبصار من شاء منهم، فالذنب لتلك البصائر لا للحق، كما أن الحِجاب في تلك العيون لا في الشمس. ولقد أحسن القائل في وصف هؤلاء وبصائرهم أنها بمنزلة أبصار الخفاش يَعجِز عن ضوء النهار، ولا تفتح أعيُنَها فيه [ق ٤٨ ب] ويلائمها ظلام الليل فتذهب فيه وتجيء.

ولهذا تجد أكثر هؤلاء لمَّا لم يتبيَّن له الهدى في شيءٍ من تلك الطرق نكص على عقبَيْه، وخَلَعَ العِذَارَ، ونزع قيد الشريعة من قلبه، وأقبل على شهوات الغي في بطنه وفرجه أو رياسته وماله، فأقبل على اللذات، وسماع


(١) البيت لأبي العلاء المعري، وقد تقدم (ص ١٤٥).
(٢) «ح»: «الفقه». والصفة: الوصف.
(٣) تهاوش القوم تهاوشًا: إذا اختلطوا في الفتن واضطربوا. «غريب الحديث» لابن قتيبة (١/ ٣٧٦).