للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قيل: أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أنّ من حلَّت في ماله الزكاة المفروضة فهلكَ جميعُ ماله إلا قَدْرُ الذي لَزِم مالَه لأهل سُهْمان الصدقة، أنّ عليه أن يسلمه إليهم، إذا كانَ هلاكُ ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم في ماله، إليهم. (١) وذلك لا شك أنه جُهْده - إذا سلّمه إليهم - لا عفوُه. وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علَّم عبادَه وَجْه إنفاقهم من أموالهم"عفوا"، ما يبطل أن يكون مستحقًا اسم"جهد" في حالة. وإذا كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ فسادُ قول من زعم أن معنى"العفو" هو ما أخرجه رب المال إلى إمامه فأعطاه، كائنًا ما كان من قليل ماله وكثيره، وقولِ من زعم أنه الصدقة المفروضة. وكذلك أيضًا لا وَجه لقول من يقول إن معناه:"ما لم يتبيّن في أموالكم"، (٢) لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لبابة:"إنّ من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة"، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يكفيك من ذلك الثلث! "، وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له نحوًا من ذلك. (٣) والثلث لا شك أنه بيِّنٌ فَقْدُه من مال ذي المال، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [سورة الفرقان: ٦٧] ، وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [سورة الإسراء: ٢٩] ، وذلك هو ما حدَّه صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله.

* * *

ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل هي منسوخة أم ثابتة الحكم على العباد؟ فقال بعضهم: هي منسوخة، نسختها الزكاة المفروضة.

* ذكر من قال ذلك:

٤١٧٤ - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: كان هذا قبل أن تفرض الصدقة.

٤١٧٥ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: لم تفرض فيه فريضة معلومة. ثم قال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [سورة الأعراف: ١٩٩] ، ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسمَّاةً.

٤١٧٦ - حدثني موسى بن هرون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، هذه نسختها الزكاة.

* * *

وقال آخرون: بل مُثْبَتة الحكم غير منسوخة.

* ذكر من قال ذلك:

٤١٧٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس = عن مجاهد - شكّ أبو عاصم قال - قال: العفو الصدقة المفروضة.

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية، من أن قوله:" قل العفو" ليس بإيجاب فرض فُرض من الله حقًا في ماله، ولكنه إعلامٌ منه ما يرضيه من النفقة مما يُسخطه، جوابًا منه لمن سأل نبيه


(١) في المطبوعة: "الواجب كان لهم ما له إليهم"، وزيادة"في" واجبة لتمام المعنى واستقامته يعني:. . . أداء الواجب في ماله إليهم، وقوله: "كان لهم" صفة لقوله"الواجب".
(٢) انظر هذا القول فيما سلف قريبًا ص: ٣٣٨.
(٣) حديث توبة أبي لبابة بن المنذر، وانخلاعه من ماله في المسند ٣: ٤٥٢، ٥٠٢ قال، لما تاب الله عليه في أمر غزوة بني قريظة (انظر سيرة ابن هشام ٣: ٢٤٧، ٢٤٨) يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي، وأن أنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجزئ عنك الثلث.
وأما خبر كعب بن مالك، فهو خبر الثلاثة الذين خلفوا (رواه البخاري في غزوة بني قريظة ٦: ٧) ، فلما تاب الله عليه قال: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى رسوله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.

<<  <  ج: ص:  >  >>