ورأيت أسبابهم مكملة. الجندي التركي لا يخاف قط بل هو يخيف غيره. والأتراك لا يطمعون في غير مطمع ولا يقعدون عن طلب شيء يريدون تحصيله فمتى حصلوه لا يضيعون شيئا منه. ويبذلون غاية جهدهم في أمر يقدرون عليه إلى أن ينالوه، وكل أمر لا يقدرون عليه لا يضيعون وقتهم في تحصيله. وهم لا ينامون إلا إذا غلبهم النوم ومع ذلك لا يكون نومهم ثقيلا بل هو خفيف جدا بحيث ينامون بالتيقظ والانتباه.
وقال ثمامة: رأيت مرة في بعض محاربة المأمون صفوف الخيل في طرفي الطريق:
في اليمين مائة خيل من الأتراك، وفي الشّمال مائة من الفرسان المختلطة منتظرين مجيء المأمون، وكان الوقت حارا وقد قرب نصف النهار واشتدت الحرارة، فنزل الفرسان المختلطة عن أفراسهم سوى ثلاثة أو أربعة منهم، ولم ينزل من الأتراك سوى ثلاثة أو أربعة.
قال الجاحظ ما خلاصته: والجندي التركي من أشد الناس تحملا للأسفار، وأصبرهم على قشف المعيشة وقلة النوم. يخرج غازيا أو مسافرا أو متباعدا في طلب الصيد فتتبعه رمكته وأفلاؤها «١» ، إن أعياه اصطياد الناس اصطاد الوحش، وإن احتاج إلى طعام فصد دابة من دوابّه وتغذى من دمها، وإن عطش حلب رمكة من رماكه، وإن أراح واحدة ركب أخرى من غير أن ينزل إلى الأرض. وليس أحد في الأرض يصبر عن اللحم كالتركي، وكذلك دابته تكتفي بأصول النبات والعشب والشجر لا يظلّها صاحبها من شمس ولا يكنّها «٢» من برد. وهو أصبر من جميع أصناف العساكر على ركوب الخيل وقطع المسافات بحيث إذا طال السّرى «٣» واشتد الحر أو البرد على بقية أجناس العساكر وأعياهم التعب- حتى صمتوا عن الكلام وتمنوا أن لو كانت الأرض تطوى لهم وأخذ كلّ واحد منهم يئنّ أنين المريض ويتداوى مما به بالتمطي والتضجع- ترى التركي في هذه الحالة وقد سار ضعف ما سار غيره، يرى قرب المنزل ظبيا أو ثعلبا أو غيره من الأوابد فيركض خلفه كأنه استأنف السير في ذلك الوقت. وإذا ازدحم الناس على مسلك واد أو قنطرة ضرب التركي بطن برذونه «٤» فأقحمه النهر، أو الوادي، ثم طلع من الجانب