من الليرات. ولو أنه كان يسمح بمقدار من هذه الأرباح إلى الفقراء لكان يخفّف عنه ذلك لغط الناس، الذي كان أقلّه قولهم فيه:«هذا لم يجيء واليا وإنما جاء تاجرا» . وكان يزيد لغطهم به حينما يرونه وهو يربح هذه الأموال مارّا في الشوارع متكئا على أريكته في سيارته، والفقراء من جهتي الجادّة يضجون ويصيحون بكلمة «جوعان» . ومنهم من مات ومنهم من أسكته الجوع وظل يجود بنفسه، فيمر حضرته ويرى هذه المناظر المفزعة فلا يتحرك فيه دم الإنسانية بل تراه كأنه يتفرج على شيء تلذّ به النفس لغرابة منظره.
[تشدد العسكرية في القبض على الناس:]
وفي هذه السنة اشتدت العسكرية في إلقاء القبض على الناس الذين هم من مواليد سنة ١٢٨٠ إلى سنة ١٣١٥ رومية، فكان رجال الدرك يمشون في الأزقة والشوارع ويقبضون على الرجال بلا تفريق بين الرفيع والوضيع. وكانوا متى رأوا شابا يستوقفوه ويطلبوا منه وثيقته فيبرزها لهم، فإن كان- بحسب تفرّسهم به- أهلا لأن يستخرجوا منه شيئا تعللوا عليه بقولهم: هذه الوثيقة قد مضى حكمها، أو هي مغلوطة أو تقليد، أو يقولوا له تذهب معنا حتى تقدمها إلى رئيس دائرة أخذ العسكر ليقيدها في سجله، أو يتعللوا عليه بغير ذلك من العلل الواهية، فلا يرى المسكين بدا من أن يدفع لهم مقدار ما استحضره وأعدّه لمثل هذه البلية من النقود ذهبا فصاعدا.
هذه حالة أهل الوثائق مع رجال الدرك وأما الذين ليس معهم وثيقة فأولئك ممن غضب الله عليهم فاستحقوا من رجال الدرك كل إهانة وتعذيب؛ لأنهم في الحال يوثقونهم في سلك الصفوف المسلسلة بالحبال ويسوقونهم أذلّاء صاغرين إلى محبس المركز، الذي هو مغارة أو مسجد قديم. غير أن هؤلاء المسلسلين- الذين ربما يبلغ عددهم نحو مائة شخص أو أكثر- لا يصل منهم إلى محبس المركز سوى بضعة أشخاص، وهم الذين لا يملك أحدهم خمسة قروش يرشي «١» بها زعيم رجال الدرك ليتخلص من قبضته، فتزجّ هؤلاء الأشخاص في محبس المركز وتترك أياما طويلة. وربما كان المحبوس غريبا وليس له من يسأل عنه من أهله فيقاسي أنواع الجوع والبلاء، لا تتركه العسكرية يخرج من محبسه، ولا تأخذه