يكن لمدة مجاورته حدّ وكان يتقاضى من غلة وقف مدرسته راتبا شهريا زهيدا لا يسدّ له عوزا ولا يغني عن كفافه فتيلا وليس عليه رقيب ولا مسيطر وربما جاور مدة حياته ولم يحصل من العلم على طائل. ولذا لم ندرك مدة حياتنا نابغة من مجاوريها نبغ بالعلوم والفنون سوى نفر قليلين لم يحملهم على الانقطاع إلى العلم حامل سوى نفوس شريفة أدركت فضيلة العلم فتخلّت للاشتغال به عن كل لذة وقنعت لأجله من المعاش باليسير.
فترت الهمم في طلب العلم لأن ثمراته الدنيوية أصبحت قاصرة عن النهوض بالعالم إلى مستوى ينال فيه عيشة راضية. على أن قليلا من الناس كانوا يقبلون على طلب العلم ليتخلصوا بالامتحان من القرعة العسكرية لأن قانونها العثماني كان يستثني الطالب من القرعة إذا أدى امتحان سنته فلما كانت أيام دولة السلطان عبد الحميد خان الثاني العثماني أصدر أمره بأن يكتفى ممن يدعي طلب العلم بمجرد كونه مجاورا في مدرسة ما فيستثنى من القرعة دون أن يؤدي امتحانا فزاد هذا الأمر همة الطلبة تثبيطا وأعطاهم من غائلة الجهل أمانا وضمانا لأن الراغب في طلب العلم للتملص من القرعة صار غير محتاج إلى العلم بل حسبه أن يكون اسمه مسجلا في سجل المجاورين المحسوبين على حجرة المدرسة التي قد يكون سجل على حسابها بضعة أشخاص كل واحد منهم يباشر عمله وتجارته دون أن يصرف لحظة واحدة من وقته في طلب العلم إذ لا يحوجه في سبيل التملص من القرعة سوى تصديق مدرّس المدرسة على أنه مجاور في مدرسته فيفلت من شرك القرعة بلا امتحان ولا أقل سؤال ويبقى جاهلا بل قد يكون أميا صارفا من نقد عمره نحو ثلاثين سنة باسم طالب علم وهو عنه بمعزل.
هذا الاستثناء كاد يمحو معاهد العلم من حلب ويطمس آثاره وذلك أن البقية الصالحة من الرّغبة في العلم التي حفظت نفسها مدة طويلة فرارا من القرعة قد زالت حينئذ بتمامها ولم يبق لها من لزوم.
[النهضة العلمية في حلب]
ولما انقضى ذلك العصر الحميدي وتقلبت الأيام والليالي وآلت مديرية أوقاف حلب إلى عهدة السيد يحيى الكيالي نظر إلى حالة المدارس والمجاورين وانحطاطهما بعين التبصر والاهتمام وأحب أن يبقي له ذكرا جميلا وأجرا جزيلا فألّف تحت رئاسة السيد الفاضل