وفي هذه السنة بدأت الآبار والينابيع تنضب مياهها وقل ماء قناة حلب ونهرها.
وكثرت شكوى الناس من هذه البلية التي لا دخل للحرب في وجودها بل هي بمحض إرادة ربانية قضت بأن لا يقع في موسم الشتاء ثلج على جبال عينتاب وغيرها من الجبال التي ينصب ماء عيونها إلى مجرى نهر حلب. وكان جمال باشا مطلعا من قبل على قلة ماء حلب، وقد أعلمه الأطباء بأن ماء القناة والنهر- مع قلته- يحمل أنواعا من جراثيم الأمراض القتالة التي يخشى على العساكر من فتكها. فاهتم جمال باشا بجر ماء عين التل إلى حلب وأحضر لذلك قساطل الحديد من جهة يافا وغيرها. وفي مدة وجيزة مدّها من العين إلى رأس محلة التلل، وهناك عمل لها خزان عظيم يصب فيه الماء ومنه يتوزع إلى جهة حلب.
وعمر في رحبة باب الفرج حوض جميل بديع الصنعة- لو تمّ عمله- يصب فيه الماء فينفر إلى العلاء قدر رمح، ثم يصب في حويض مستور، له مباذل «١» مغروسة بدائره.
وعمل لأخذ الماء عدة مراكز أقصاها عند خان الكمرك- في سوق السقطية- وفي متوسط خندق العطوي الآخذ إلى باب النصر. فلم يستفد من هذا الماء سوى المحلات القريبة من باب الفرج بسبب قلته وعدم ارتفاع خزّانه. وعلى كل حال فإن سكان هذه المحلات وما قاربها قد ارتاحوا قليلا من جهة ماء الشرب، وعدّ عمل جمال باشا هذا من أكبر الحسنات التي تكفّر بعض سيئاته وتخلد ذكره في التاريخ.
ولما انتهى هذا المشروع الحسن عمل له في شعبان هذه السنة- ومايس سنة ١٣٣٣ رومية- حفلة افتتاح عند حوض باب الفرج المذكور، حضر فيها الجمّ الغفير من الأعيان والأمراء والأهلين، وأنشدته قصيدة من نظمي اقترحها عليّ والي حلب توفيق بك، وهي قصيدة طويلة منها قولي:
إن ماء أجراه عذبا فراتا ... فيه إرواء غلّة الورّاد