أنه كان يلتفت إلى زيد من أهل الإقليم الفلاني مدة فينهال عليه بالعطايا والرتب والأوسمة وقضاء المآرب، وفي الوقت نفسه يلفت نظره عن عمرو- الذي هو من ذلك الإقليم- فيهجره ويبقيه مطروحا في زوايا الإهمال والنسيان، فيستوحش عمرو من هذا الإهمال وينكسر قلبه وتدبّ في فؤاده نار الحسد لزيد، ويرى أن هذا الأنكيس «١» لم يأته إلا من قبل زيد، وأنه لا يعود التفات السلطان إليه إلّا بتنكيس أعلام خصمه زيد وسبقه عليه بنقل الأخبار إلى السلطان وإعلامه بما يجري حوله من الأمور والأحوال التي تمس شخصه وسلطنته، ويكون زيد قد انتبه إلى مكايد عمرو واجتهاده بالتقرب إلى السلطان وإبعاد خصمه عنه، فيقابل عمرا بمثل عمله فيقع بينهما التحاسد والتنافس. والسلطان أذن صاغية لكل واحد منهما، يبقى على ذلك مدة من الزمن إلى أن يستوفي ما في وطاب «٢» المتجاولين ويستفرغ ما حواه جرابهما فينقلب على زيد ويقبل على عمرو، ويعود بينهما الدرس الأول.
وهلم جرا.
بهذه السياسة المدهشة كانت ولايات البلقان منقادة إلى طاعة هذا السلطان في كل هذه المدة، رغما عما أظلته سماؤها من تعدد العناصر واختلاف الملل. ومثلها الولايات العربية.
[استخدامه صحف الأخبار الأجنبية في مآربه:]
وكان يدرّ إنعاماته الوافرة على أصحاب الجرائد الأجنبية الممتازة فتذكر محاسنه وتغضّ الطرف عن مساويه وتنوّه بعظمته وقوة دهائه، وتجسّم خطورة مناوأته في مخيلات عظماء الرجال من الدول الأجنبية اللواتي لهن مستعمرات إسلامية، بما كانت تبثّه في تضاعيف عباراتها من الكلمات التي مفهومها أن عامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يدينون بمحبة السلطان عبد الحميد وولائه، وأنهم على اختلاف أجناسهم وعناصرهم منقادون لسلطانه الروحي عليهم، وأن أدنى إشارة منه إليهم تثير فيهم الحمية الدينية فيهبون لقيام عام يزحزح أركان السلام ويقلب الأرض ظهرا لبطن.