هربوا وتركوكم. ومن هذا القبيل أن حمص بينما كانت في ذمة المسلمين إذ شغلوا عن حفظها فردّوا على أهلها ما كانوا أخذوه منهم من الجزية، فقال أهلها: لولاؤكم «١» وعدلكم أحبّ إلينا مما كنا فيه من الظلم والضيم، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة معكم. على أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرف حق هؤلاء العرب النصارى وكافأهم على حسن صنيعهم ونصرتهم للمسلمين وعاملهم بكل رفق ومواساة. من ذلك أن الوليد بن عقبة أبى أن يقبل من تغلب إلا الإسلام فكتب إليه عمر بأن يتركهم وما يدينون به. وكان في تغلب عزّ وامتناع، وقد همّ بهم الوليد فخاف عمر أن يسطو عليهم فعزله وأمرّ عليهم فرات بن حيان. ولما همّ قواد المسلمين أن يضعوا الجزية على أهل الذمة- وفيهم جماعة من تغلب وإياد والنمر وهم نصارى- أبى هؤلاء الجزية. وبلغ عمر ذلك فاستشار أصحابه فقال له بعضهم: إنهم عرب يأنفون من الجزية. فوافق ذلك ما في نفسه، ففرض عليهم الصدقة كما تفرض على المسلمين.
هذه هي الرابطة القومية العربية وهذه حرمتها ورعايتها بين العرب في جاهليتهم وإسلاميتهم.
[رابطة الجوار:]
وأما رعايتهم حرمة الجوار ومحافظتهم على حقوق الجار مهما جار، فإن الرجل من العرب كان قبل الإسلام متى قبل جوار إنسان وجب عليه حميّة أن يجيره من عدوه ولو ضحّى عنه نفسه، وأن يفديه ولو بروحه ويقوم بحمايته من أعدائه مهما كانوا، ويصونه من كل غائلة ويسعفه بكل طلب. وحسبنا شاهدا على ما قلناه قصة الكلابي مع عمير ابن سلمّي. وخلاصتها أن رجلا من بني كلب كان جارا لعمير، وكان لعمير أخ اسمه «قرين» بغى على الكلابي فقتله، فجاء أخو الكلابي واستجار بقبر أبي عمير وطلب من عمير أن يقتصّ من أخيه قرين، فاجتهد عمير هو وقبيلته بالكلابي أن يقبل دية أخيه جميع ما تملكه القبيلة ويعفو عن قتل قرين، فلم يفعل، فقتل عمير أخاه قرينا بالكلابي وأنشد:
قتلنا أخانا للوفاء بجارنا ... وكان أبونا قد تجير مقابره