ولا تروق للسلطان عبد الحميد الذي كان مبدؤه التظاهر بالأعمال الدينية إرضاء للرعية، فيتوخى كلّ عمل يلائم أفكارهم.
وألصق به هؤلاء المنفيون غير ذلك من التهم التي هو براء منها والتي لم يقصد من عملها سوى خدمة الوطن وتحسين أحوال البلدة. وكان الباعث لهؤلاء الطغمة الشريرة على وشايتهم به أنه كان مدة ولايته في حلب يعارضهم في أعمالهم الاستبدادية، ويمنعهم عن تداخلهم في شؤون الحكومة، وكان أسلافه الولاة يهابونهم ولا يعارضونهم في تداخلهم، أما هو فإنه ضرب على أيديهم ووقف تيار استبدادهم وأعلمهم بأنهم هم منفيون ليس لهم من الأمر شيء.
بقي رائف باشا ضيفا كريما في منزل أحمد أفندي كتخدا مدة تزيد على شهرين، وهو في أثنائها في ضنك عظيم يتوقع كل لحظة صدور أمر السلطان بجعله من جملة المنفيين، غير أن السلطان تحقق في هذه المدة بواسطة جواسيسه الصادقين أن رائف باشا من المخلصين في ولائه وأن جميع ما ألصقه به أعداؤه من التهم كذب وبهتان، فأصدر إرادة سنية ترخّص له الحضور إلى استانبول، فتوجه إليها. وفي يوم خروجه من حلب خفّ لوداعه عدد عظيم من العلماء والأعيان إلى منتزه السبيل، فجلس هناك برهة من الزمن ثم استأنف المسير إلى جهة إسكندرونة، فأسف عليه الناس أسفا عظيما ودعوا له بالسلامة وطول البقاء.
[ولاية أنيس باشا في حلب:]
وقبل سفر رائف باشا إلى استانبول بأيام قلائل، حضر إلى حلب أنيس باشا واليا عليها فنزل في دار البلدية وأقبل الناس عليه للسلام. وفي ثاني يوم من وصوله نزل إلى الجامع الكبير وزار المرقد الشريف، وطاف في البلدة وزار مراقد الأولياء والصالحين وعاد إلى منزله. ومضى على قدومه إلى حلب عدة أيام ولم تزره قناصل الدول المعظمة. ثم شاع عنهم أنهم يطلبون من السلطان تبديله وأنهم لا يعترفون بولايته على حلب زاعمين أنه هو الذي أغرى الأمة في ولاية ديار بكر- حينما كان واليا عليها- بالقيام على الأرمن وقتلهم. ولما أصر القناصل على عدم الاعتراف بولايته على حلب ورد إليه أمر مرموز بأن يبقى مختبئا في منزله لا يظهر إلى أحد حتى يأتيه أمر آخر يوضح له ما يجب عليه عمله.
فبقي هذا الوالي المسكين مختبئا في منزله كالمحبوس مدة شهرين أو أكثر لا يظهر لأحد،