الاستراحة فلبث بها مديدة حتى تهيأت له مراسم المعايدة. ثم نهض إلى قاعة العرش ودخلها من باب بينها وبين غرفة الاستراحة وانتصب واقفا أمام العرش ووجهه إلى جهة البحر ولفيف الحرس السلطاني الخاص ورجال الموسيقى يكررون الهتاف بالدعاء الملوكي «بادشاهم جوق يشا»«١» ، ثم صدحت الموسيقى السلطانية بأنغامها المطربة يتراجع صداها في فضاء قبة القاعة، وينزل على الحاضرين كأنغام نازلة من السماء تسحر الألباب، وتهتز لها طربا ألياف القلوب ما دامت ذرات الهواء مهتزة بها في قلب الأثير. قال الأستاذ: وقد سمعت أنغاما موسيقية كثيرة في أوربا وأميركا ولم أسمع فيها أنغاما تشابه هذه في الطرب.
قال: ثم إن السلطان أصدر أمره إلى إبراهيم بك- رئيس التشريف- بالبدار إلى المعايدة. وفي الحال اصطف رجال «المابين» وراء العرش صفا واحدا في مقدمتهم رئيس الحجاب (سرقرنا حاج علي بك) ورئيس الكتاب (تحسين بك) والكاتب الثاني (عزت بك) مع لفيف الحجاب وآغاوات الحرم السلطاني، ثم أقبل نقيب الأشراف وهو لابس جبة خضراء وطأطأ رأسه ثلاثا وسلّم بسلام الخلافة ووقف تجاه العرش على بعد نحو عشرة أذرع، ثم بسط ذراعيه وتلا الفاتحة. وفعل السلطان فعله وتبعه الصدر الأعظم وباقي الوزراء، والسلطان واقف على قدميه في الطرف الشمالي من العرش وكفاه مجللتان بالقفّاز الأبيض، مستندتان إلى مقبض سيف الخلافة. وكان الصدر الأعظم واقفا على يمين العرش وقد حمل على كفيه سيرا من الحرير الأحمر المقصب بأسلاك الذهب المفتول، فإذا أقبل الوزير وصار على مقربة من العرش سلم ثلاث مرات بسلام الخلافة ثم دنا من العرش وقبّل طرف السير ورجع القهقرى وهو يسلم بسلام الخلافة ثلاث مرات إلى أن توارى. ثم انتقل الصدر الأعظم إلى يسار السلطان وأقبل عليه وزراء الجهادية فسلموا بسلام الجندية دون أن يحنوا ظهورهم ولثموا طرف السير ورجعوا.
[خبر زلزال حدث في ذلك الوقت وثبات جأش السلطان:]
ثم أقبل صف أصحاب الرتب وابتدؤوا بالمعايدة وكانت الساعة بلغت الرابعة إلا خمس عشرة دقيقة إذ سمع صوت رجة خفيفة حصلت من اصطكاك في بلور الثريا الكبيرة المتقدم ذكرها، ثم اشتد صوت الارتجاج رويدا رويدا حتى صار اهتزازا عنيفا تناثرت من قوته