إذا علمت هذا تبين لك أن السبب الحقيقي لهذه الفتنة العمياء غير قضية الفرس وغير حكاية العشيرة، بل السبب الصحيح أمر مستور دبّر بليل خفيّ على الناس في وقته فصاروا يرجمون به الظنون، وكلّ يتكهن عنه حسب عقليته وحسبما شاهده من ظواهر الماجريات دون البحث عن بواطنها.
إن السبب الحقيقي لهذه الكارثة قد بالغ من أوثق عقدته في ستره وإخفائه، وأسدل عليه حجبا كثيفة من الكتمان صونا لحياته، إذ لو كشف الستار عنه في تلك الأيام لما أحجمت الدولة قيد لحظة واحدة عن قتل ناسج برده ونافخ ناره. وإليك في بيان الحقيقة جملة استخلصتها من كلام المكانسي الذي كان في ذلك الزمن من خاصة الرجال المنتمين إلى يوسف باشا شريف، المخلصين في محبته والمطّلعين على أسراره.
قال: إن الدولة المصرية لما دخلت هذه البلاد أناطت متسلمية حلب بعبد الله بك البابنسي، وهو من قدماء اليكجرية وله أتباع كثيرة في حلب وبرّها، فكان عبد الله بك يأخذ المقاطعات الأميرية ويصرف أموالها على أتباعه وأعوانه من الحضر والبدو، والحكومة المصرية لا تعارضه في ذلك ولا تطالبه بأموال المقاطعات لعلمها بأن صرفها على أتباعه مما يعود نفعه إليها، فكأنها كانت تعتبر أتباعه كجند لها. ثم لما انسحبت الحكومة المصرية من حلب وعادت إليها الحكومة العثمانية أبقت متسلّميتها في عهدة عبد الله بك، فكان يأخذ المقاطعات ويصرف أموالها على أتباعه كما كان معتادا عليه في عهد الحكومة المصرية.
غير أن الحكومة العثمانية لما رسخ قدمها في حلب وغيرها من البلاد التي عادت إلى حكمها جعلت تطالب عبد الله بك وبقية رؤساء البلاد- ومنهم يوسف باشا- بما تأخر في ذممهم من أموال المقاطعات، وهي مبالغ طائلة تعدّ بألوف الألوف، وكان جل ثروات رؤساء البلاد مجموعة من تلك الأموال، وكان ولاة حلب يتقاضون الرؤساء هذه الأموال فيما طلونهم بأدائها فيتساهلون معهم ولا يشددون في طلبهم، إلى أن ولي حلب مصطفى ظريف باشا فرأى أن أموال المقاطعات المتأخرة في ذمم الرؤساء قد بلغت ألوفا مؤلفة، وأن الدولة في ذلك الحين على أشد الحاجة إلى المال فجعل الوالي يشدد على الرؤساء الطلب حتى بلغ من تشديده أن هددهم ببيع أملاكهم وحبسهم وكسر شرفهم. فاضطربوا وذلّت