[رغبته بالمستخدم المبتلى بهوس ما، وعدم رغبته بالمستخدم المتنفذ:]
ومن غرائب السنن التي كان يسير عليها في استخدام بعض الموظفين أنه كان يسرّ جدا من المستخدم إذا كان ممحونا بمحنة متمكنة منه تضطره مباشرتها إلى استغراق وقته وتجعله غير مكترث ولا عان بأن يشتغل بغيرها من الأمور السياسية أو بالبحث عن أحوال السلطان وغيره. وعليه فإن المستخدم المحبوب عنده هو المصاب بهوس المقامرة، والميل إلى الأحداث أو بنات الهوى أو بنت المدام، أو بغير ذلك من المحن والشوائب. ذلك المستخدم الذي يتمسك به ولا يسمع فيه شكوى شاك وكأن لسان حاله يقول:
أذني لحبيبي صاغية ... صمّت عند الواشي السّمج
[حكاية عن مستخدم من هذا القبيل:]
حكى لنا زين العابدين بك مكتوبي الولاية سنة (١٣٢٨) حكاية فحواها من هذا القبيل فقال: كنت مكتوبيا في إحدى ولايات البلقان، وكان واليها ممتحنا بوجع الظهر منهمكا بالرشوة، فكثرت عليه الشكايات فلم يعرها السلطان أذنا. ثم إن أحد الدهاة العارفين بالطرق التي تثير حفيظة السلطان دسّ في شكاية عليه كلمة مؤداها أن الوالي يجتمع عنده نفر من شبان «جون ترك» ويتفاوضون بأمور تمس حضرة ملجأ الخلافة. قال زين العابدين: وحينئذ أصغى السلطان إلى هذه الشكوى وسرعان ما أصدر إرادته السنية بإحضاري إلى استانبول لأسأل عن حقيقة هذا الوالي. فشخصت في الحال إلى استانبول وحضرت توا إلى «المابين»«١» ولما أعلم السلطان بحضوري أمر رئيس كتّابه أن يستقصي مني أحوال الوالي، وقد وقف السلطان من وراء الحجاب يسمع كلامي. فقال لي رئيس الكتاب: أصحيح أن والي ولايتكم يجتمع عنده نفر من شبان «جون ترك» ويتفاوضون بمسائل السياسة؟ فأجبته على الفور: إن هذا الرجل ممحون بوجع الظهر، وبالكاد «٢» أن يتسع له الوقت لأجل استيعاب اشتغاله بمداواة محنته، وإن الشبان الذين يجتمعون عنده ليسوا سوى الشبان الذين يطيّبون مرضه.