في محرّم هذه السنة- الموافق كانون الثاني سنة ١٣٢٦ رومية- كان الشتاء شديدا والقرّ والثلج في حلب وباقي جهاتها مما لم يسبق له نظير. وفي أثناء هذه الأزمة بعثت إلى السيد الماجد أمين بك التميمي قائممقام قضاء منبج كتابا نشرت في طيه نبأ هذه الحادثة الكارثة. ومنه يعلم القارئ ما أحدثه القرّ والثلج من البلاء في حلب وأنحائها على وجه التفصيل. وإليك صورة الكتاب، بعد ديباجته:
على أني أحرّر لكم حروف هذا الكتاب والقلم يكرع شرابه من محبرة جامدة، والفكر يستمد مادته من قريحة نارها بأنفاس البرد خامدة، ذلك لأن شتاءنا في هذه السنة أقبل علينا فاغرا فاه كالحا بوجهه مكشرا عن أنيابه، منيخا بكلكله حالّا بأثقاله قد قرس قرّه، واشتد أمره، وسكر زمهريره، وتكسرت على الأرض قواريره، فأحال الألوان، وقشفت به الأبدان «١» ، وكتعت الأصابع «٢» ، وأرعدت الأضالع، وعصب الريق في الأشداق، وجمد الدمع في الآماق، تقلصت منه الشفاه، وكزّت له الأسنان في الأفواه، صفح بجليده الأنهار والبحيرات، وأسال لعابه من الميازيب والشرفات، يتساقط ثلجه على الأرض تساقط النّور من أشجار ثار بها إعصار، ويتهافت على الحضيض تهافت الفراش المبثوث على لهيب النار، كلّل بملاءاته رؤوس الأطواد، ومدّ بساطه اليقق «٣» على الروابي والوهاد، فعادت به القيعان كأنها درّة، وأصبح من مرآة الغريب في كل عين قرّة، ورحم الله القائل:
كم مؤمن قرصته أظفار الشتا ... فغدا لسكان الجحيم حسودا