في يوم الخميس ٢٦ محرّم هذه السنة ٢٩ آب سنة ١٣٠٦ تواردت الأخبار من جهة مسكنة بأنه أصيب فيها بالهيضة خمسة عساكر بواسطة ثلاثة أفراد من البدو، وقدموا إلى مسكنة من بلد الجزيرة، المنتقل إليها هذا المرض من ديار بكر فبغداد فالبصرة فالهند. ثم في يوم السبت ٢٨ محرم أصيب بالمرض المذكور بضعة أشخاص من النصارى في زقاق أبي ناصر في محلة قسطل الحرامي بحلب. وفي ثاني يوم مات أكثرهم فوضعت الحكومة الحجر على هذا الزقاق عشرة أيام، وفشا المرض في أنطاكية وحمص وحماة وكلّز وعينتاب والبيرة، ولم تزد وفياته اليومية على خمسين نسمة في حلب.
فاهتمت الحكومة بالأسباب التحفظية وبالغت بنظافة البلد، وحظرت بيع الخضر والبقول المضرة، ووضعت في عدة جهات داخل البلد مقدارا عظيما من الزبل اليابس.
ثم في الساعة الحادية عشرة من يوم الاثنين ٢٨ ربيع الأول أمرت أن تضرم النار في هذا الزبل، فعلا الدخان إلى طبقات الجو وانتشر ريحه في جميع البلدة. وكان الغرض من ذلك تنقية الهواء به من المكروبات التي يزعم الأطباء أنها السبب في مرض الهيضة. ثم نبهت الحكومة على مختاري المحلات أن يحملوا كل ساكن في محلتهم على أن يبخّر بيته كل يوم بالقطران والكبريت، ويطرح في المراحيض مقدارا من الزاج والكلس، ويرشّ البيوت بروح الفحم، ويحرق عند باب داره مساء كل يوم مقدارا من الزبل. فامتثل البعض منهم الأمر، فلم يفد ذلك شيئا. إلى أن كان أواخر كانون الثاني تقلّص ظل هذا المرض الذي وقف دولاب التجارة ورفع أسعار العقاقير الافرنجية كالقينا وروح الفحم والكونياك، لانقطاع جلبها من أوروبا، لعدم مجيء البواخر إلى ميناء إسكندرونة بسبب الحجر الصحي المضروب فيما بين أنامور وإسكندرونة برا وبحرا. وكانت مدته خمسة أيام، واستمر ذلك إلى اليوم الثاني والعشرين من كانون الثاني، فألغي الحجر وعادت التجارة إلى ما كانت عليه، ورجع الناس من هربهم. على أن السبب الأعظم لتكرر هذا الداء الوبيل في حلب