ولا يخرج في تطبيبه إلى حد الخطر على حياته، فإن أبلّ من مرضه فذاك هو المطلوب، وإلا فلا ملام عليه.
ذكر طائفة من الأمور المنفّرة التي كانت أثناء الحرب، وهي تهور جمال باشا وقلة تبصره:
من تهوّر جمال باشا- وهو أول شيء دل على طيشه- أنه لما قدم إلى حلب لأول مرة أصدر أمره إلى الوالي جلال بك بأن يحمل الناس على الصعب والذّلول، ويسوقهم فورا إلى جهة «راجو» ليعملوا في تسوية طريق سكة حديد بغداد. وكان صدور أمره هذا ليلا فلم يسع الوالي مخالفته «١» . وفي الحال أمر رئيس الشرطة أن يسوق الناس إلى تلك الجهة بأسرع ما يمكن، فأوعز رئيس الشرطة إلى رجاله أن يطرقوا الأبواب على الناس ويوقظوهم من مضاجعهم، ويقبضوا على من يرونه في طريقهم من الرجال ويسوقوا الجميع إلى تلك الجهة بلا تفريق بين رفيع ووضيع. ففعلوا ما أمروا به وساقوا الناس بثياب نومهم، ومنهم من نجا من شر هذه البلية بنقود دفعها للشرطة.. ولما وصلت هذه الجموع إلى جهة «راجو» قابلهم ضباط عسكريون وقالوا لهم: لأي شيء حضرتم إلى هنا؟ قالوا: لأجل العمل بالطريق. فقالوا لهم: أبأيديكم تحفرون التراب وتقلعون الحجارة؟ وبأي مكان تنامون؟ وأيّ طعام تأكلون؟ ارجعوا إلى حيث جئتم، لا عمل لكم عندنا، ولا مأوى ولا قوت. فرجعوا على أسوأ حالة وقد عرى أكثرهم الذّرب من برد الخريف وقلّة الزاد.
نحن لا نعدّ هذا العمل مظلمة من جمال باشا؛ لأن عمل هذا الطريق أمر واجب في أيام هذه الحرب، وإنما نعد التسرع في سوق هؤلاء على هذه الصفة خرقا «٢» وقلّة اكتراث بعباد الله. أما كان الواجب عليه قبل سوقهم أن يعدّ لهم ما يأكلون ويهيئ لهم خياما يأوون إليها وأدوات يشتغلون بها ولو كان ذلك كلّه من أموالهم؟ وإنما أرهقهم بالسفر ولم يترك لواحد منهم مجالا لأن يلبس ثوب يقظته، مع أنه يعلم أن الموضع الذي يساقون إليه خلو من كل ما يحتاجون إليه في أنفسهم وعملهم.