على مقربة من حلب وكانت بلدة عظيمة وإليها كان يضاف الجند فيقال جند قنّسرين- فقد كان في جهاتها كثير من القبائل العربية التي أشهرها تنوخ، وهم من ذرية النعمان الذي تضاف إليه المعرة، وكانوا نصارى. ولا ريب أن النبي لم يخيّر بالهجرة إلى إحدى هذه الجهات إلا لأن أهلها عرب يحدبون عليه وينصرونه على أعدائه قياما بحق الرابطة المرعيّة بينهم وهي وحدة اللسان.
وهكذا بقيت هذه الرابطة محترمة بين العرب بعد انتقال النبي من هذه الدار إلى دار القرار، فإن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه- الذي هو أعظم خلفاء الإسلام- احترم الرابطة اللسانية وبنى عليها صرح نجاحه فيما يتوخاه من مآربه ومقاصده، فأمر العرب المسلمين في مبدأ خلافته أن يبدؤوا بقصد العراق والشام دون غيرهما لأن فيهما عربا يتّحدون معهم وينصرونهم وإن كانوا على غير دينهم. وقد صدّقت الوقائع حسن رأيه وحققت الماجريات صحة تفرّسه، وذلك أن قائده الوليد بن عقبة لما قدم على عرب الجزيرة نهض معهم مسلمهم ونصرانيهم، واستخلصوا الجزيرة من الروم. ولما تقدم عبد الله بن المعتمّ «١» - قائد العرب المسلمين- إلى فتح تكريت والموصل انضم إليه عرب إياد وتغلب والنمر والشهارجة، وكلهم نصارى، فكان فتح هذين البلدين بواسطتهم. ولما قصد المثنى فتح البويب بعث إلى من يليه من العرب المنتصرة يستنصرهم، فوافى إليه منهم جمع عظيم، وكان فيمن جاءه أنس بن هلال النمري في جمع عظيم من النمر النصارى، وقالوا:
نقاتل مع قومنا. وقال المثنى لأنس: إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا، فإذا حملت على مهران (وهو قائد من الفرس) فاحمل معي. فأجابه إلى ما طلب وحمل معه هو وقومه على مهران، وكان قاتل مهران غلاما نصرانيا قتله واستولى على فرسه. وحارب زبيد الطائي مع العرب في واقعة الجسر حتى قتل وكان نصرانيا.
وكثيرا ما كان عرب الشام والعراق عونا لإخوانهم العرب المسلمين في حروبهم يرشدونهم وينصحونهم ويحملون إليهم أخبار أعدائهم. من ذلك أن الوليد بن عقبة خرج غازيا إلى الروم فجاءه رجل من العرب النصارى وقال له: إني لست من دينكم ولكنني أنصح، للنسب، فالقوم يقاتلونكم إلى نصف النهار فإن رأوكم ضعفاء أفنوكم، وإن صبرتم