تدعو الأمة إلى التحابب والتوادد والتناصر والتعاضد، بحيث يكون كل فرد من أفراد هذه الأمة راقدا بواسطة هذه الجامعة في مهاد الوفاق والوئام مع باقي إخوته العربيين مهما اختلفت مللهم ونحلهم. فقد يتجلى لك من ملامح وجوه التاريخ أن العرب المسيحيين والموسويين والوثنيين في البلدان والقرى والصحاري، من اليمن والحجاز والحيرة والعراق، والجزيرة والشام الجنوبية والشماليّة، كانوا في الأزمنة الغابرة راتعين مع بعضهم في بحبوحة الأمان والسلام على السواء، وكانوا لا يعرفون التعصب للدين ولا النعرة الدينية، بل كانت عصبياتهم لا تنعقد إلا للجنسية والحلف والولاء والجوار، كما أن الحرب التي تقع بينهم كانت لا تثور إلا بسبب التنافس على مادة الحياة والتنازع على الرئاسة، لا لاختلاف الملة والدين. فكانت قبيلة غسان مثلا فيها المسيحيّ والموسوي والوثني، تحارب قبيلة غفار التي يوجد فيها من الملل الثلاث لعداوة دنيوية أو تنافس قومي يقع بين القبيلتين ليس إلا.
ولم ينقل إلينا التاريخ أنه جرى بين أمتين عربيتين حرب أثارتها حمية دينية سوى الطفيف النادر الذي ربما كان سببه أمرا خارجيا عن العرب، صادرا بتحريض من جاورهم وملك السيادة عليهم من الأمتين الفارسية والرومية.
هكذا كانت الرابطة اللسانية مرعيّة عند الأمة العربية القحطانية والعدنانية. ثم لما جاء الإسلام بقيت هذه الرابطة محترمة بين العرب المسلمين وغيرهم، يعتمد العربي على العربي ويركن إليه لمجرد كونه عربيا، غير ناظر إلى ملّته ونحلته. حتى إن هذه العاطفة العالية كانت من جملة العواطف الشريفة التي تحلت بها شمائل النبي العربي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لما اضطهده قومه الأقربون حسدا وحرصا على الرئاسة اضطر إلى الهجرة عن وطنه والالتجاء إلى قوم آخرين يأوي إليهم ويستنصر بهم على أعدائه، فخيّر بالهجرة إلى البحرين أو المدينة أو قنّسرين، فقال: أوحي إليّ: أيّ الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك: المدينة والبحرين وقنّسرين.
ومعلوم أن هذه الجهات كانت مسكونة بالعرب، فالمدينة كانت مأوى أبناء قبيلة الأوس والخزرج، وكان يسكن في ضواحيها قبائل سليم وكلهم أهل أوثان، وكان القاطنون جهة البحرين بطونا من عبد القيس بن ربيعة وبكر بن وائل، ومنهم كان أمير هذه الجهة من قبل الدولة الفارسية- حين مجيء الإسلام- المنذر بن ساوى، من بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وكان فيهم النصراني والوثني. أما قنّسرين- وهي الآن قرية