النساء وعويلهن، وطفقت الخلائق تركض إلى الصحراء وهم يتدافعون ويتزاحمون في الشوارع والأزقة هائمين على وجوههم، لا يلوي والد على ولد، كلّ يهرع مهرولا إلى ساحل السلامة يطلب النجاة لنفسه حتى كأن القيامة قد قامت وآذن حبل الحياة بالانصرام، وكان القتام شديدا حلك منه الظلام وحجب النجوم عن العيون.
أما الجماعة الذين كانوا يسمرون عندي فقد أسرعوا الكرّة إلى منازلهم ليتفقدوا أهلهم.
وأما أنا فقد كان أهلي حين وقوع هذا القضاء جالسين في صحن الدار، وكانت الدار فسيحة وجدرانها قصيرة لم يؤثر بها الزلزال ولا انهدم منها شيء، فجمعتهم في وسط الصحن وبتنا ليلتنا في قلق زائد، لأن الأرض كانت في كل برهة ترتجف وتختلج، ونحن نستغيث بالله ونتعوذ به من سخطه. فلما طلع الفجر أحضرنا جماعة من العتّالين فحمّلناهم من البيت ما يقوم بسدّ حاجاتنا من الفرش والمؤنة وخرجنا بالأهل والعيال إلى أحد بساتين الفستق التي في جوار محلتنا، وكان الناس قد خرجوا إليها في الليل وبات أكثرهم على الأرض بلا غطاء ولا وطاء. أما بقية جهات البلدة: فمن ناسها من خرج إلى البرية في جوار محلته، ومنهم من قصد الكروم والبساتين ثم تداركوا الخيم وبيوت الشعر. والأغنياء منهم عملوا بيوتا من الدفّ، ومنهم الفقراء الذي ظلوا تحت السماء بلا كنّ «١» ولا ملجأ.
واستمر الزلزال يتردد نحوا من أربعين يوما تارة خفيفا وأخرى شديدا.
وحين حدوث الزلزلة الأولى كان أكثر الناس على أسطحة منازلهم وفي فسحات دورهم جريا لعادتهم في موسم الصيف، فسلم بهذه الواسطة العدد الكبير من عطب الزلزلة، ولولا ذلك لكان السالم منهم قليلا. ومع هذا فقد مات تحت الردم في حلب زهاء خمس عشرة «٢» ألف نسمة. وكان معظم تأثير الزلزلة في محلة اليهود والعقبة وسوق العطارين وأبراج القلعة وما اشتملت عليه من البيوت والمنازل، وما جاور القلعة من المباني التي كانت قائمة في ذلك الفضاء المعروف باسم (تحت القلعة) . قال: ومما يدل على شدة نفضات الزلزلة في أول مرة أن هلال مئذنة جامع العثمانية اندفع من محلّه وسقط على قبة القبلية فخرقها ووقع على أرض القبلية فحفرها.