أو متنفذي الرعية، فقد كان الإنسان في أيامه يطلق لسانه بما شاء وبمن شاء لا بأس عليه بذلك، إلا أن يتكلم بما يمس سلطانه فإنه لا يسامحه بأقل كلمة سوء تصدر منه في حقه فيعاجله بالنفي عن وطنه، لكن مع تعيين راتب شهري له يقوم بتمام كفايته حسب مقامه.
وهذه العقوبة جعلها مختصة بمن يتجرأ عليه بقول أو عمل يشتمّ منه رائحة المساس بشخصه أو سلطانه ولو من مسافة بعيدة. على أن العقوبة بالنفي على هذه الصفة كانت تعدّ من أهون العقوبات وأخفها عبئا على من يستحقها.
سألت الفريق عابد باشا- أحد كبار المنفيين إلى حلب- عن سبب نفيه فقال:
حدثت في استانبول هزة أرض لم ينجم عنها ضرر، فقلت لجماعة من أصحابي وأترابي:
«بظلّ ملجأ الخلافة لم يحصل من هذه الهزة خطر» . قلت ذلك بلسان تهكم وسخرية، أعني بهما المتملقين من اللائذين بقصر يلديز وكتبة الجرائد الذين يأتون بهذه العبارة في مقدمة كل مقال ينمقونه بالإخبار عن كل حادث، طبيعيا كان أم مفتعلا. مثلا يقولون:
بظلّ ملاذ الخلافة وقع في حلب مطر غزير، وبظلّ حامي حمى الخلافة بني في دمشق مكتب للإناث، وبظلّ السلطان الأعظم كانت هذه السنة ذات فيض وبركة. قال عابدين «١» باشا: فاتصلت كلمتي تلك بسمع السلطان بواسطة أحد جلسائي الذين قلتها بحضورهم، مع أنني لم أفه بها إلا وأنا معتقد أنهم جميعا من خواص أصحابي وأترابي ولم يخطر لي على بال قط أن بينهم متجسّسا لعبد الحميد.
وحكى لنا عزيز بك- وهو من كبار المنفيين أيضا- أن سبب نفيه «٢» أنه كان أمّ السلطان مرادا بصلاة التراويح. وحكى لي عثمان بك أحد المبعدين إلى حلب- وهو ممن غلب عليه البله، وكان يعاني في استانبول مهنة الحلاقة- أن السلطان عبد الحميد نفاه لأنه كان يبري الأقلام للسلطان رشاد وكان عثمان بك حسن الخط.
هكذا كان السلطان عبد الحميد يعاقب بالنفي على أدنى كلمة وأقل حركة يرى بها مساسا لشخصه أو سلطنته ولو توهما وتظنيا.
أما عقوبته بالتغريق أو الاغتيال أو الحبس فقد جعلها نصيب من يتوهم منه صدور