واحد منكم والثالث الأستاذ الشيخ أسعد شقير، فانتخبوا واحدا من وفدكم الحلبي يخطب بالنيابة عنكم وعن بقية وفود البلاد.
ولما عاد المفتي إلى حلقة وفدنا الحلبي أخبرنا بما أوحى إليه القائد العام، فقال لي رفقائي بلسان واحد: قد اخترناك أن تكون أنت ذلك الخطيب. فشقّ علي هذا الأمر لأنني لم أمرن على الخطبة، سيما في مثل ذلك الجمع العظيم الذي يضم إليه المئين من علماء سوريا وأدبائها وشعرائها ومحرري صحفها. وبينما أنا أتنصل من القيام بهذه الوظيفة إذا بصفير القطار المعلن بوصوله إلى المحطة، فما كان إلا أن هرعت إلى جهته تلك الجموع التي لا تقل عن مئة ألف نسمة، وبدأت العسكرية بإطلاق المدافع لتحية العلم، وضج الناس بالتهليل والتكبير إعظاما واحتراما للعلم، فكنت لا تسمع سوى دويّ المدافع وصدى أصوات المهللين بكلمة «الله أكبر» كأنه الرعد القاصف. وكان قد تقدم القائد العام جمال باشا ووالي ولاية دمشق نحو حافلة القطار واعتنقا العلم الشريف وسارا به نحو الموقف الذي أعد لإلقاء الخطب فتبعتهم الجموع تموج موج البحر في يوم عاصف فاختلط الناس ببعضهم وأضعت رفقائي.
وبينما أنا أبحث عنهم إذ وقع نظر أحدهم عليّ فأقبل يعدو نحوي وقال: إن خطيب دمشق على وشك الانتهاء من خطبته وإن الناس يتشوقون إليك. ثم أخذني من يدي ومشى إلى الموقف فإذا هو عبارة عن مركبتين قد وقف في إحداهما مفتي السادة الشافعية في المدينة المنورة وهو يحمل العلم الشريف، والمركبة الثانية قد أعدت لوقوف الخطيب وقد تحلق الناس حولهما لسماع الخطب حلقا وهم يعدّون بعشرات الألوف. وما كدت أقف بضع دقائق حتى انتهى خطيب دمشق من خطبيه ونزل من المركبة، والتفتت العيون نحوي فصعدت إليها وفؤادي يخفق هيبة وجلالا، سيما وأنا ممن لم يعتد على الوقوف في هكذا موقف رهيب، ولست على أهبة فيما أقوله بهذا الموضوع؛ إذ لم يفسح لي من الزمن ما يسع تحبير ما أريد أن أقوله لأن تكليفي للخطبة كان قبل بضع دقائق. فصعدت المركبة ولما استوليت على ظهرها شعرت كأن هاتفا يهتف بي بما أحاول أن أقوله، فحييت العلم ببعض كلمات وذكرت ما كان من تأثير المجاهدين الذين ساروا تحت ظله، وما فتحوه من الأقطار والممالك ببركة روحانيته، وما عانوه من الأخطار والأهوال في سبيل حفظه