بدأ به من وضع المدافع في أعالي البلدة وصدور أمره للموكّلين بها بأن ينتظروا إشارته بإطلاقها- حضر الوالي وقال له: اقتلني قبل أن تنفّذ هذا العزم، لأن قتلي أهون علّي من أن أرى حلب خرابا.
هكذا شاع عند أهل حلب. والحق يقال: إن تخريب هكذا بلدة يعد من أكبر الفظائع التي تبقى نقطة سوداء في تاريخ العثمانيين إلى الأبد. على أنه غير مستبعد عن أهل البلدة- متى بدأ عمل التخريب ببلدتهم وبلغوا حد اليأس من سلامتهم- أن يقوموا قيام المستميت ويهجموا، وهم يعدّون بمئات الألوف، على كل تركي في حلب جنديا كان أم غير جندي فيبيدوهم عن آخرهم.
سمع حضرة القائد نصيحة الوالي ورقّ لشكواه ورجع عن عزمه، غير أنه قال له إنه متى علم أن أهل البلدة تداخلوا مع العساكر العربية الإنكليزية وانضموا إليهم فهو يخرب البلدة على رؤوس أهلها في ساعة واحدة. وعليه فإن الوالي قبل سفره بيوم حضر إلى دار الحكومة ودعا إليه جماعة من الأعيان وبلّغهم ما قاله القائد فأجابوه بأن القيام مع العساكر العربية الإنكليزية مما لم يتصوره أحد من أهل حلب.
وقد استفاض بين الناس ما يبديه الوالي في حق أهل حلب من العطف والمحاماة وحسن الإدارة حتى اتصل خبر ذلك بالقائد الإنكليزي وهو في جبهة الحرب أمام الجنود العثمانية قرب قرية الراموسة، فكتب إلى الوالي- حسبما شاع- يشكره على ما يبديه من اللطف والإنسانية مع أهل حلب، ويرجو منه أن يبقى مثابرا على حفظ البلدة إلى آخر ساعة وأن لا يخشى تعرض أحد إليه من الدولة الجديدة بالأسر أو سوء المعاملة.
قلت: إن اشتهار هذا عن الوالي وشيوعه إلى هذه الدرجة يدفع ما قيل عنه إنه لم يقصد من بقائه في حلب إلى آخر وقت من أيام الحكومة العثمانية إلا ليكون جاسوسا بين أهل البلدة وبين القائد العسكري، وواسطة تهديد وتخويف بين الطرفين لسوء ظنه بأهل حلب وخوفه هو والقائد من قيامهم على من فيها من الأتراك عامة، فيبيدونهم عن آخرهم انتقاما منهم على ما كان يفعله معهم أشرار الموظفين من الظلم والتعدي، على حد قول الشاعر:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توهّم «١»