الصعبة المسالك، البعيدة الأكناف، المترامية الأطراف، التي يستحيل فيها على أعظم حكومة سائسة في تلك الأعصار- التي فقدت فيها وسائط النقل وسهولة السفر وآلات الاستخبار- أن تبث بين من في هذه المملكة من الشعوب العظيمة روح الوفاق والوئام، وتجمع بين رضاهم من بعضهم ورضاهم من حكومتهم وانقيادهم إليها طائعين مختارين شاكرين منها حامدين غير ناقمين عليها عملا، ولا منتقدين لها سياسة، مجمعين على حسن سلوكها، متفقين على حبها وولائها.
كان العدد الكبير من الملوك العثمانيين لا يقلّون بمنزلتهم- فيما شادوه في العالم الإسلامي من المآثر والمفاخر- عن السلطانين المعظّمين المعدودين من أعاظم ملوك الإسلام، وهما نور الدين محمود بن زنكي، وأتابكه المرحوم السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب. بل لو تصفحت وجوه التاريخ واستقصيت أخبار هذين السلطانين العظيمين وأخبار عظماء ملوك بني عثمان؛ لظهر لك جليا أن هؤلاء الملوك أربوا- بفضائلهم وبما فتحوه من الممالك- على السلطانين المشار إليهما، ذلك أن هذين السلطانين كانا واقفين في جهادهما موقف الدفاع والمحاماة عن بيضة الإسلام في القطعة الشامية وبعض جهات إفريقية والجزيرة. أما عظماء سلاطين بني عثمان فإنهم لم يقنعوا من عدوّهم بأن يقفوا له في موقف يدافعونه به عن بلادهم فحسب، بل دفعتهم هممهم العلية وغيرتهم الدينية إلى أن يطردوه من ديارهم ثم يغزوه في عقر داره ويستولوا على أصل وطنه وقراره، ويطؤوا بحوافر خيولهم أرضا وديارا لم يطأها أحد قبلهم من خلفاء المسلمين وعظماء سلاطينهم الفاتحين.
قال الأستاذ جرجي زيدان في كتاب «التمدن الإسلامي» منوها بعظمة سلاطين بني عثمان: إنهم فتحوا القسطنطينية التي يئس ملوك المسلمين من فتحها، وحاربوا أعظم ملوك أوربا وطاردوهم إلى بلاد المجر، وحاصروا «فينّا» وأخذوا الجزية من ملوك النمسا، واكتسحوا البحر الأبيض إلى شواطىء إسبانيا، فارتعدت أوربا خوفا منهم وفتحوا الشرق إلى العراق، ثم ساروا جنوبا غربيا حتى فتحوا الشام ومصر، وامتدت ممالكهم في عهد السلطان سليمان من بودابست- على ضفاف الطونة- إلى أصوان على ضفاف النيل،