فيرى منحدرا فسيحا قامت فيه المنازل والعمائر ذات القصور الباسقة والمباني الشاهقة المنبثة بين الحدائق والبساتين. ثم لا يلبث القادم عليها حتى يسمع من جهتها نعر «١» النواعير الدائرة بقوة مياه العاصي الشبيهة بنواعير حماة. وقد يستقبل النسيم القادم إليها في إبان فصل الخريف بأرج الآس الذي غرسته يد القدرة في جبالها وهضابها القريبة منها والبعيدة عنها.
وبعد أن يجتاز إليها ذلك الجسر القديم يرى بلدا عظيما معمورا حسن المباني بعضها من الأخشاب وبعضها الآخر- هو الأكثر- من الحجارة المنهدمة قد تعلق في كثير من جدرانها سواق خشبية يجري فيها ماء النواعير إلى أماكن لكل منها قسطل معلوم.
إذا صعدت إلى بعض مرتفعات جبل حبيب النجار تراءت لك البلدة كنصف دائرة استدار عليها العاصي من شرقيها وشماليها وغربيها واعترضها الجبل من جنوبيها فصار قطرا لها. وترى هذا الجبل على عظمته وطول مسافته قد تمشّى في وديانه وقممه ذلك السور العظيم الذي أوله من قرب المكان المعروف بباب بولس وآخره قرب دفنة «٢» .
أهل أنطاكية متعصبون بالدين. والجمال غالب في نسائهم وقد اشتدت في وجهائهم وأعيانهم محبة الجاه والتقرب إلى الحكومة. وهم ميالون إلى العلوم والآداب والمعارف.
وفي طباعهم السخاء والإحسان إلى الضيف والتسابق إلى إكرامه.
التجارة في أنطاكية قليلة الجدوى، ولذا كان معظم الثروة التي لا يمكن للإنسان أن يملكها في أنطاكية يحرزها من قراها وبساتينها فأرباب الثراء من هذه الجهة هم الذين يزاحمون بعضهم بالتقرب إلى الحكومة ليتمكنوا من إخضاع مزارعيهم ويصونوا حقولهم وغلّاتهم منه ومن غيره أرباب الصيال والسطوة في البر. وهذا هو السبب الذي جعلهم في أكثر الأوقات منقسمين إلى فئتين كل منهما ينضم إليها فريق من أهل البلدة والأكثر أن تكون إحدى الفئتين غالبة والأخرى مغلوبة مبتعدة عن الحكومة عاجزة عن حفظ أرزاقها في البر.
مدينة أنطاكية تتصل بساتينها من جهة الغرب بناحية السويدية المشتملة على عدة نواح كالحسينية والزيتونية والميناء.