الدليل الثالث: وجود كثير من شجر الأترجّ في بساتين حلب، في الزمن القديم. فقد ذكر دار فيو الذي كان قنصل دولة فرنسة في حلب سنة ١٠٤٠ في كتابه الذي سماه (تذكرة أسفاري) أنه شاهد بساتين حلب مملوءة من شجر الأترجّ فهذا دليل صريح على أن العارض الجوي في حلب كان منذ ثلاثمائة سنة معتدلا يمكن أن يعيش فيه هذا النوع من الشجر مع أننا الآن لا نعرف بستانا خارج حلب يشتمل على شيء من هذا الشجر أما في حدائق البيوت فيوجد منه القليل إلا أنه لا تكاد شجرته تبلغ حد الإثمار إلا ويدهمها الصقيع فتيبس.
وهكذا قد استمر شأن هذه الشجرة منذ أربعين سنة حتى أصبحنا في يأس من نجاحها في حلب، وصار الناس عندنا يسمونها شجرة الهمّ لما يتكبدونه من الزحمة في حمايتها وحفظها من البرد.
الدليل الرابع: يوجد الآن في جبل ليلون كثير من أصول شجر الزيتون الذي له فروع ضئيلة لا يزيد ارتفاعها على قدر قامة الإنسان، وهي غير مثمرة وفي هذا الجبل أيضا أطلال معاصر لعصر زيت الزيتون، وأحواض منقورة في الصخر لإحراز الزيت، مما يدل على أن هذا الجبل كان وطنا للزيتون مدة عصور طويلة، أما الآن فإنه إذا غرس فيه شيء من هذا الشجر، نبت وطالت فروعه لكنه لا يكاد يبلغ حد الإثمار إلا وتطرقه آفة البرد فيصقع وييبس.
الدليل الخامس: كنا نعهد في ضواحي حلب وبعض البلدان المضافة إليها عددا غير قليل من مغارس الزيتون الناجح المثمر الذي يوجد فيه كثير من الأشجار المعمّرة التي مضى على غرسها مئات من السنين، بل بعض المسترزقين بالزيتون يبالغون في قدم هذه الأشجار ويقولون إنها قائمة في مغارسها منذ زمن السيد المسيح صلوات الله عليه. على أن أكثر هذه المغارس قد دب العطب فيها منذ عشرات السنين وانتهى عطبها عن آخرها بما فيها من الأشجار المعمرة في سنة ١٣٢٩ وبهذا يستدل على أن البرد الذي عطبت به هذه الأشجار لم يمر عليها نظيره منذ نشأت وإلا لما سلمت كل هذه المدة.
الدليل السادس: أن القطن كان يوجد في جهات حلب أشجار خالدة تبقى الشجرة منه عدة أعوام، على ما حكاه ابن البيطار في تذكرته، مع أن القطن لا يكون أشجارا خالدة إلا في الأصقاع المعتدلة في الحر والبرد، وهو الآن ما لا وجود له في حلب ولا في جهتها