غيرها. والظاهر أن العدوى من حيث هي ضعيفة النكاية في حلب، فقد شاهدنا فيها كثيرا من الناس الذين يلامسون المصابين بأمراض تنتقل بالعدوى ويأكلون ويشربون من آنيتهم ولا يصابون بمرضهم.
وأما ماؤها المركّز في صهاريجها فهو من أعذب المياه وأصفاها وألطفها. ونقل ابن الشحنة عن بعض العلماء أنه فضّل ماء صهاريجها المملوء من قناتها على ماء النيل والفرات.
وفي ماء حلب يقول أبو فراس:
لقد طفت في الآفاق شرقا ومغربا ... وقلّبت طرفي فيهما متقلبا
فلم أر كالشهباء في الأرض منزلا ... ولا كقويق في المشارب مشربا
ومن فضل صهاريج حلب أن الغني والفقير في مائها على السواء. وذلك أن الفقير يمكنه أن يشرب في أوقات القيظ كل شربة، ماء عذبا باردا نقيا يتناوله من صهريج بيته أو صهريج محلته المباح للعموم، بخلاف بقية البلاد الكبيرة فإن فقيرها لا يمكنه أن يشرب في إبّان القيظ كل مرة من الماء المذكور، لأنه يحتاج إلى ثمنه أو ثمن الثلج الذي لا يخلو شربه عن الضرر أيضا أو التحليل على تبريده بغير واسطة.
وأما بناؤها فقد جمع بين حسن الظاهر والباطن، فترى الجدار من جهتيه كأنه سبيكة فضة، والقادم على حلب يشاهد صعيدها كأنه مليء بقصور من فضة مموهة بالذهب، وهذا مع إتقانه ومتانته وقلة كلفته. فأما إتقانه فإن كل دار في حلب تصلح أن تكون حصنا في غيرها. وأما قلة كلفته فحسبك أن من يملك نحو ثلاثمائة ذهب تركي، يمكنه أن يعمّر بها دارا كاملة المنافع والمرافق يسكنها ذو أسرة يبلغ عددها سبعة أشخاص. ويتمتع بها هو وأعقابه من بعده مئات من السنين. وكثيرا ما يوجد عندنا دور مضى عليها خمسمائة سنة وهي عامرة آهلة، ربما بقيت خمسمائة سنة أخرى.
والحكمة في إتقان بناء حلب هي لزوجة ترابها المعدّ للبناء وقوة كلسها ومهارة بنائيها وجودة حجارتها. فإنه يوجد في مقاطعها من الحجر الصلد الصلب الذي لا تكاد تعمل فيه المعاول، إلى الحجارة التي يمكن حتّها ونحتها بأدنى كلفة. فما بين هذين النوعين زهاء عشرة أنواع، لكل نوع منها لون ومحل من البناء، كالنحيت المائل للصلابة، والنحيت الهشّ، ولونهما أبيض، واللبن والرخام الأبيض والأصفر والأسود والسماقي والمرمري