للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكتب عليه إساءة الأقوال كما كتبَ عليهِ إساءة الأفعالِ بينَ معاقدِ الجواز في القول كما بين مراتبه في الفعل وجعل مَحِل الدليل على الكلام على الاختصاص اللسان وجعل سائر الجوارحَ تدلُّ عليه بالإشارة وعلى عظيم شرفِ اللسانِ سلط الله تعالي سبحانه عليه الآفات ففيه خصلة واحدة وهي الصدق وفيه نيفٍ على عشرين آفةٍ شرُّها الكذب. قال لي دايشمند (١): إذا أردت ألَّا يبقى على فعلك آفة، ولا على لسانك فالزم الصدق، فإنك إذا عرفتَ أنك ستسأل فيقال لك فعلتَ كذا؟ فإن قلت لا كذبتَ وإن قلتَ نعم هكلت. فالصدقُ رأس مال المطيعين وما لزمه أحدٌ قط في الإِسلام لزومًا أعرضَ فيه عن المعاريض إلا ربعي بن حراش (٢) فإنه لم يكذب قط في الإِسلام كذبة. ولقد خرج ولده مع ابن الأشعث على الحجاج فطلبه وجعل فيه الجعل أزيد من عامٍ فلم يقدر عليه فلما أعجزهُ، قال له بعض من رأى اهتمامه به أيها الأمير إنْ أردت أن تجده فاسأل عنه أباه فإنه لا يكذب، فأرسل إلى ربعي فقال: أتعرف لابنك مستقرًا؟ قال: نعم. قال له: وأين هو؟ قال: في موضع كذا. فأرسل الحجاج إليه فجيء بهِ، فلما مثل بين يديهِ صعَّد فيه النظر وصوَّب ثم قال: قد وهبتك (٣) لصدقِ أبيك. وكان الناسُ قد اختلفوا قديمًا أيما أفضل الصَّمت أم الكلام حتى كادوا يقولون لو كان الكلام من فضة لكان الصَّمتُ من ذهب، فتكلمنا عن ذلك (٤) مع شيخنا أبي بكر الفهري رحمه الله تعالى بالمسجد الأقصى طهّره الله تعالى وذكرنا ما وقعَ من الكلام فيه فقال: هذا كله خطأ، الكلام أفضل علي كل حالٍ, لأنّ الكلامَ من صفاتِ الله تعالىَ عزَّ وجلَّ، وما كان لله من صفاته للعَبد منها أُنموذج فإنها أشرف من صفةٍ يتعالى الله تعالى عنها عزَّ وجل، وما ذلك في الغباوة إلَّا بمنزلة من يقول الجهل أشرف من العلم، بيد أنهُ لشرف اللسان حف بالآفات ولقلةِ احتراز الناس في المنطق هربوا إلى الصَّمت، وذلك بمنزلة من يفر من العلمِ إلى الجهلِ لتعب الطلب.

انتهى كلام الشيخ رَحمهُ الله تعالى ولما كان شرفُ الكلام أظهر من الشمس في البيان، بوَّب مالك رضي الله عنه على ما يُكره منه في سبعة أبواب:

الباب الأول: في المكروه المطلق منه، ذكر فيه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قال


(١) داشمند الشيخ الكبير بالفارسية ومراده هنا شيخه الإِمام الغزالي الطوسي.
(٢) ربعي بن حراش بكسر المهملة وآخره معجمة أبو مريم العبسي الكوفي ثقة عابد مخضرم من الثانية مات سنة مائة وقيل غير ذلك. التقريب ص ٢٠٥، وانظر ت ت ٣/ ٢٣٦.
(٣) في وهبناك.
(٤) في م زيادة يومًا.

<<  <   >  >>