ويسجل لنا القاضي رحلته بأسلوبه الأدبي فيقول: فألفينا بها جماعة من المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين، والسلطان عليهم جريء وهم من الخمول في سرب خفي ومن هجران الخلق بحيث لا يرشد إليهم حري، ولا ينبسون من العلم ببنت شفة ولا ينسب أحد منهم في فن إلى معرفة بله الأدب (١).
قلت: ورغم ما ذكر من الركود العلمي، والذي صوَّره ابن العربي، فقد كان هناك علماء أجلّاء أخذ عنهم رأسهم شيخ الشافعية في وقته وهو أبو الحسن الخلعي. يقول عنه ابن العربي: شيخ منعزل له علوّ في الرواية. وأخذ أيضاً عن الشيخ أبي الحسن بن أبي داود الفارسي بعض مجالسه بالفسطاط، ومهدى الوراق وغيرهم. ولم يلبث القاضي مدة بمصر حتى تكشفت له بعض العقائد الفاسدة كعقائد الإِسماعيلية الفاطمية، وذكر أنها أول بدعة واجهته. يقول: وهذه أول بدعة لقيت في رحلتي؛ فإني خرجت من بلادي على الفطرة، فلم ألقَ في طريقي إلا مَنْ كان على سنن الهدى، حتى بلغت بلاد هذه الطائفة وزرت بها قبر عمرو بن العاص فلبثت فيهم ثمانية أشهر لم يبق باطل إلا سمعته، ولا كفر إلا شوفهت به ثم خرجت عنهم إلى الشام، [العواصم ص ٥٩ - ٦٠].
وتردد القاضي على مجالس القراء بمصر وسجل إجابه بقوله: سمعت تاج القرّاء
ابن لفتة بجامع عمرو يقرأ: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء/ ٧٩].
فكأني ما سمعت لآية قط [وسمعت ابن الرفا، وكان من القراء العظام، وأنا حاضر بالقرافة يقرأ {كهيعص} فكأني ما سمعتها قط. [الأحكام ١٥٩٦]. وبعد إقامته بمصر ثمانية أشهر توجَّه إلى بيت المقدس.
[مغادرته مصر إلى بيت المقدس]
وكان وصوله سنة ٤٨٦ هـ، كما سيأتي عنه وكانت بيت المقدس -ردَّها الله لديار الإِسلام وأزاح عنها شر اليهود ومن شايعهم- مركزاً من أهم مراكز الإِشعاع الفكري يجتمع فيها العلماء من كل المذاهب، ولكل مذهب مدارسه وأئمته. وكانت هذه المدارس محلاً للمناظرات. ومن أجل هذا الجو العلمي آثر ابن العربي لبقاء أطول مدة في هذه الديار؛ فقد مكث فيها ما يزيد على ثلاثة أعوام.