ويقول رحمه الله في وصف حالته في تلك الديار: رحلنا عن ديار مصر إلى الشام ودخلنا الأرض المقدسة، وبلغنا المسجد الأقصى فلاحَ لي بدرُ المعرفة فاستنرت به أزيد من ثلاثة أعوام، وحين صلّيت بالمسجد الأقصى، فاتحة دخولي له، عمدت إلى مدرسة الشافعية فألفيت بها جماعة من علمائهم، في يوم اجتماعهم للمناظرة، عند شيخهم القاضي الرشيد يحيى، الذي كان استخلفه عليهم شيخنا الإِمام الزاهد نصر بن إبراهيم النابلسي المقدسي، وهم يتناظرون على عادتهم، فكانت أولى كلمة سمعتها من شيخ من علمائهم يقال له مجلي .. فلم أفهم من كلامه حرفًا ولا تحقَّقت منه ذكراً ولا عرفاً، وأقمت حتى انتهى المجلس. [قانون التأويل، قسم التحقبق ٢٥ - ٢٦].
وبعد انتهاء هذا الدرس، الذي لم يقدِّر الله له فهمه وهو من هو ذكاء، جمع كتبه وذهب إلى مدرس آخر ولكنه هذه المرة ابن بلده وهو الطرطوشي.
يقول ابن العربي: ومشيتُ إلى شيخنا أبي بكر الفهري، رحمه الله، مع أبي فألفيناه بباب السكينة فشاهدت هديه وسمعت كلامه فامتلأت عيني وأذني منه، وأعلمه أبي بنيتي فأناب وطالعه بعزيمتي فأجاب، وانفتح لي به إلى العلم كل باب ونفعني الله به في العلم والعمل ويسَّر لي على يديه أعظم أمل، فاتخذت بيت المقدس مباءة. والتزمت فيه القراءة لا أقبل على دنيا ولا أكلِّم إنسيا، نواصل الليل بالنهار.
أدخل إلى مدارس الحنفية والشافعية في كل يوم لحضور التناظر بين الطوائف لا تلهينا تجارة ولا تشغلنا صلة رحم ولا تقطعنا مواصلة وليّ وتقاة عدو.
[قانون التأويل قسم التحقيق ص ٢٦ - ٢٧، رسالة ماجستير للأخ محمَّد السليماني].
هكذا كانت فترة إقامته؛ فقد كانت كلَّها عملاً دائبًا وسعياً متواصلاً في سبيل البحث والدرس، استطاع خلالها أن يدرس أُمَّهات العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه وأصول وجدل وعلم كلام ولغة وأدب وتاريخ وسِيَر مما جعله يتصدر قائمة العلماء.
ويصف لنا، رحمه الله، ازدهار العلم ببيت المقدس ومظاهر الحضارة وتعدد المذاهب والنحل فيقول: وردت على بيت المقدس، طهره الله، فألفيت فيه ثمان وعشرين حلقة ومدرستين.
إحداهما للشافعية بباب أسباط، والأخرى للحنفية بإزاء قمامة، تعرف بمدرسة أبي عقبة، وكان فيه من رؤوس العلماء ورؤوس المبتدعة، على اختلاف طبقاتهم، كثيرٌ ومن أحبار اليهود والنصارى والسمرة جملٌ لا تحصى. فأوفيت على القصد من طريقه ووعيت