هذا كتاب اخترعه مالك رحمه الله في التصنيف. لفائدتين:
أحدهما أنه خارج عن رسم التكليف المتعلق بالأحكام التي صنفها أبوابًا ورتبها أنواعاً.
والثاني أنه لما لحظ الشريعة وأنواعها ورآها منقسمة إلى أمو ونهي وإلى عبادة ومعاملة وإلى جنايات وعبادات نظمها أسلاكاً وربط كل نوع بجنسه وشذت عنه من الشريعة معان مفردة لم يتفق نظمها في سلك واحد لأنها متغايرة المعاني، ولا أمكن أن يجعل لكلٍ منها باباً لصغرها ولا أراد هو أن يطيل القول فيما يمكن إطالة القول فيها فجمعها أشتاتًا وسمّى نظامها كتاب الجامع فطرق للمؤلفين ما لم يكونوا قبل ذلك به عالمين في هذه الأبواب كلها ثم بدأ في هذا الكتاب بالقول في المدينة، وإنما كان ذلك لأنها أصل الإيمان، ومعدن الدين، ومستقر النبوة والكلام فيها في أربعة فصولٍ: الفصل الأول في حرمها والثاني في بركتها والثالث في إعمال المطي إليها والرابع في فضلها.
أما الفصل الأول: في حرمها: فإن الله تعالى خلق الأرض بابًا واحداً من قطعةٍ من زبرجدٍ ثم مدها حتى صارت مسحة ثم شرف بعضها على بعض بما أوجب له من حرمة وركب فيها من فائده إما في منفعةٍ بدنية وإما في طاعةٍ دينيةٍ. فروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب في الحديث الصحيح فقال:(إن مكة حرمها الله تعالى يوم خلقَ السموات والأرض فهي حرام بحرمة الله)(١) وتعلُق التحريم بها يكون من وجوهٍ منها تعلق علمه بحرمتها، ومنها تعلق كلامه بها، ومنها تعلق كتابه بحرمتها في اللوحِ المحفوظ إذ خلق القلم ومنها حرمتها بفعلهِ وعصمته إياها عن الجبابرة ومنها ما أوقع في قلوبِ الخلقِ من التعظيم لها في قوله: {أوَلَمْ
(١) متفق عليه أخرجه البخاري باب لا يعض شجر الحرم ٣/ ١٧ ومسلم في الحج باب تحريم مكة وصيدها وخلاها رقم (١٣٥٤) والبغوي في شرح السنة ٧/ ٣٠٠ من حديث شريح الكعبي.