للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لأنه لو فعل ذلك مع واحد ما جاء غيره بعده ولانْسَدَّ باب الاستفتاء ويقي الخلق في ظلمة الجهالة والمعصية (١). وأما احتجاجه بكفارة القتل فهي وهلة عظيمة؛ لأن كفارة القتل وردت في الخطأ فقلنا العمد أولى (٢)، وخالفنا في ذلك جماعة من العلماء (٣). فأما ها هنا فوردت الكفارة في العمد فكيف يجوز أن يقلب القوس ركوة (٤) فيحمل عليها الخطأ، هذا من أفسد وجوه النظر فتفطنوا له. واختلف الناس في هذه الكفارة هل هي مرتبة كسائر الكفارات، أم هي على التخيير؟ فقال علماؤنا: هي على التخيير لقوله في حديث أبي هريرة: أو. وهو نصّ. فإن قيل: قد قال في الحديث الثاني (هَلْ تَسْتَطِيعُ) وناقله بالعجز من خصلة إلى أخرى؟ قلنا: يحتمل أن يكون ناقله قصد الترتيب، ويحتمل أن يكون ناقله ليعلم ما عنده من هذه الخصال فيأخذه بالأولى منها؛ والأولى منها عند مالك الإطعام، ليس لعينه، ولكنه لأنه أنفع بالحجاز لجوعهم وأكثر ثمناً لقلة القوت عندهم (٥). وقال ابن حبيب (٦) من علمائنا: بل هي على الترتيب (٧) وهو الحق لأن أوفى (٨) حديث أبي هُرَيْرَة تحتمل التخيير وتحتمل التفصيل فلا يرد الظاهر بمحتمل.


(١) قال الحافظ: استدل بهذا على أن من جاء مستفتياً أنه لا يعزَّر لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصيه؛ وقد ترجم لذلك البخاري في الحدود وأشار إلى هذه القصة وتوجيهه أن مجيئه مستفتياً يقتضي الندم والتوبة والتعزير إنما جعل للاستصلاح ولا استصلاح مع الصلاح، وأيضاً فلو عوقب المستفتي لكان سبباً لترك الاستفتاء، وهي مفسدة، فاقتضى ذلك أن لا يعاقب. هكذا قرره الشيخ تقي الدين. فتح الباري ٤/ ١٦٤.
(٢) هذا هو مذهب مالك والشافعي، قال القرطبي: كان مالك والشافعي يريان على قاتل العمد الكفارة، كما في الخطأ. قال الشافعي: إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى. تفسير القرطبي ٥/ ٣٣١، وانظر كلام الشارح في الأحكام ٢/ ٤٧٤، وانظر أحكام القرآن للكيا الهراسي الشافعي ٢/ ٤٤٤، والأم ٢/ ٨٥.
(٣) لعله يقصد بذلك الأحناف لأن ذلك هو مذهبهم. انظر أحكام القرآن للجصاص ٢/ ٢٤٥.
(٤) هذا مثل يضرب في الإدبار وانقلاب الأمور. صحاح الجوهري ٦/ ٢٣٦١.
(٥) روى ابن الماجشون عن مالك أن الإطعام أفضل. قال الباجي وجرى عليه العراقيون ووجه ذلك أنه يحيا به جماعة لا سيما في أوقات الشدائد والمجاعات. المنتقى ٢/ ٥٤.
(٦) ستأتي ترجمته.
(٧) ونقل الباجي عنه قوله: وأنا أقول بالحديث للذي لم يأتِ فيه تخيير ولكن بالترتيب كالظهار. المتتقى ٢/ ٥٤.
(٨) قال ابن عبد البر: هكذا روى هذا الحديث مالك، ولم يختلف رواته عليه بلفظ التخيير، وتابعه ابن جريج وأبو أويس عن ابن شهاب، ورواه جماعة من أصحاب ابن شهاب على ترتيب كفارة الظهار: هَلْ تسْتَطِيعُ =

<<  <   >  >>